محمد حسن الصورياذا كملت العبقرية الفذة في انسان، وثبتت راسخة خالدة تعددت انذاك نواحي العمل فيه، وبرزت للحياة صور جديدة من الافكار المثالية العالمية، وكونت في دنيا الانسان اثرا قويا للطموح نحو التقديم والسمو ورجاء قريبا من الحق والعدل. والسيد الافغاني هو اروع مثال لهذه العبقرية الخالدة التي جاءت الى هذه الحياة فاحدثت فيها شيئا جديدا من حية في الفكر، ويقظة في الضمير، وتنبه في الشعور.
لقد وجد السيد الافغاني ان اقرب العوامل الفعالة في نشر افكاره وآرائه الحديثة، ان يركن الى الصحافة فحين ورد مصر في عهد اسماعيل باشا استطاع ان يثير روح الحماس والعمل في نفوس جماعة من الرجال الاذكياء فانشأ لذلك صحفا جريئة تعبر عن مبادئهم بصراحة كاملة فصحيفة (مصر) صدرت في القاهرة لاديب صحاف كانت لسان حال هؤلاء الناهضين وكان السيد الافغاني يسرف عليها، ويبعث فيها احساسا بليغا من القول الصارم، والاراء الحديثة الناضجة بتوقيع (مظهر بن وضاح) وفي الاسكندرية صحيفة (التجارة) كانت صوتا صارخا للعمل والاصلاح له ولتلامذته المصلحين كاللقاني والشيخ محمد عبده وامثالهما، ثم اعد جماعة اخرين لتوجيه جريدة (الوقائع المصرية) حسب البرنامج الذي اعدوه لنهضتهم السريعة الاصلاحية، وهناك صحيفة اخرى هزلية صبغها المصلح الافغاني باللون الذي اراده من التعرض بسياسة اسماعيل باشا، وكان يصدرها الكاتب الفكه (يعقوب مصوغ) باسم (ابو نضارة). وهكذا استطاع السيد الافغاني ان يبعثها صرخة مدوية في ارجاء مصر فيحدث فيها روحا متوقدا للحماس الوطني الثائر، وللوثبة الجبارة السريعة، ولكن ولاة الامور حين رأوا ان الافغاني قد استفحل امره، وانه خلق في مصر امة تعرف كيف تحاسب فكان من نتيجة هذا ان اخرج من مصر وهو هادئ النفس، مطمئن الضمير، ذلك لانه استطاع ان يوجد تيقظا في الشعور بمقدرته الصحفية، واحاديثه التي كان لايخلو منها ناد او مجلس، حتى قال عنه تلميذه الشيخ محمد عبده (كان السيد جمال الدين يلقي الحكمة لمريدها وغير مريدها، ومن خواصه انه يجذب مخاطبه الى ما يريد وان لم يكن من اهله، وكنت احسده على ذلك، لانني تؤثر في حالة المجلس للوقت فلا تتوجه نفسي للكلام الاّ اذا رأيت له محلا قابلا، واستعدادا ظاهرا.. وقال عنه سليم بك العنجوري، كان من ديدن جمال الدين ان يقطع بياض نهاره في داره حتى اذا جن الظلام خرج متوكئا على عصاه الى مقهى قرب الازبكية، وجلس في صدر فئة تتألف حوله على هيئة نصف دائرة، فيتسابقون الى القاء ادق المسائل عليه، وبسط اعوص الاحاجي لديه فيحل اشكالها فردا بلسان عربي مبين لا يتلعثم ولا يتردد بل يتدفق كالسيل من قريحة لا تعرف الكلال، فيدهش السامعين، ويفحم السائلين، ويبكم المعترضين،.. ثم انه حين انتقل الى باريس بعد اقامته في لندن زمنا قليلا اصدر فيها صحيفة (العروة الوثقى) وكان يحررها الشيخ محمد عبده ويترجم لها ميرزا محمد باقر، صدر منها اثنا عشر عددا في اثني عشر شهرا تبدأ من تاريخ 15 جمادي الاولى سنة 1301 هـ (13 مارس سنة 1884م) وكانت هذه الصحيفة يوزع اغلبها مجانا ذلك لان القائم بها جمعية سرية، لها عدة فروع في سائر العالم الشرقي، فهي لاتريد من ورائها الربح، وانما المهم عندها نشر المبادئ الصحيحة الواجب اتباعها والدفاع عن التهم الموجهة الى الشرقيين وبث روح الوحدة بين سائر الامم الاسلامية بل الشرقية على العموم. اما الناحية الادبية في حياة الافغاني فنترك التحدث عنها الى الاستاذ احمد امين بك فقد قال في مجلة الثقافة: كان الادب عبد الارستقراطية، لا هم له الاّ مدح الملوك والامراء، والتغني بافعالهم وصفاتهم مهما كانوا ظلمة فجارا، فكل حاكم سيد الوجود في زمانه، آت بالمعجزات في اعماله، الفن والادب موسيقى لطربه وبهلوان تسليته، وعبيد مسخرة لنهش اعدائه، ومدح اوليائه، الاديب الصغير مداح للغني، والاديب الكبير مداح للامير الكبير فاتى جمال الدين فسخر الادب في خدمة الشعب، يطالب بحقوقه، ويدافع عن ظلمه ويهاجم من اعتدى عليه كائنا من كان، يبين للناس سوء حالهم، ومواضع بؤسهم، ويبصرهم بمن كان سبب فقرهم، ويحرضهم ان يخرجوا من الظلمات الى النور، وان لايخشوا بأس الحاكم، فليست قوته الاّ بهم، لاغناه الاّ منهم، وان يلحوا في طلب حقوقهم المغصوبة، وسعادتهم المسلوبة فخرج على الناس بأدب جديد، ينظر للشعب اكثر مما ينظر الى الحاكم، وينشد الحرية ويخلع العبودية ويفيض في حقوق الناس، وواجبات الحاكم، ويجعل من الاديب مشرفا على الامراء لا سائلا يمد يده للاغنياء، وهذه نغمة جديدة لم يعرفها المسلمون منذ عهد الاستبداد. كلمة القيت في تأبي الافغاني
الافغاني والصحافة
نشر في: 30 أكتوبر, 2009: 05:20 م