شجرة من التوت كان يستظل بها العديدون قبل أن يصبح العراق ساحة للإرهاب ..سقطت ورقة من أراد أن يحقق مآربه بدق إسفين الطائفية ، وسقطت بعدها ورقة من أراد أن يلعب على أوتار الوطنية ..وفي النهاية ، لم تبق إلا ورقة توت صغيرة يتستر خلفها من لازال يحاول تعميق جرح هذا البلد الرائع حاملا لواء الديمقراطية وقوة القانون بينما يسعى أبناؤه لخياطة جرحهم معاندين الخفافيش والذئاب وكل من يعمل في الظلام ..
قبل أن يتوجه المواطنون الى صناديق الاقتراع ليمارسوا حقا حلموا به زمنا طويلا على اعتبار انه المنقذ من الدكتاتورية ، تناثرت أشلاء كثيرة لشباب تناثرت قبلها أحلامهم حين أدركوا أنهم إنما درسوا ليحتفلوا بزفات تخرج يفتعلون بها الفرح افتعالا ثم يعلقون شهادات تخرجهم على جدران حجراتهم أو يضعون صورهم بعباءات التخرج أمام زبائن سيارات الأجرة التي تبقى في النهاية وسيلتهم الوحيدة لتحصيل مصدر رزقهم –اذا كانوا قادرين على شراء سيارات أجرة أو العمل لدى أصحابها - ...
كانوا شبابا قادتهم أيام العطل التي تتناسل في العراق مع تناسل مناسباته الدينية والوطنية والطارئة الى البحث عن شيء من الترفيه في مقهى شبابي فلم يمهلهم الإرهاب وقتا ليفكروا إن كانوا سينتخبون أم لا ومن سينتخبونه أو يثقون به ..هل كان مرشحهم سينتشلهم من براثن بطالة أودعتهم في قاعات البليارد أم سيساعدهم على امتلاك قطعة ارض أو شقة صغيرة في مجمع سكني أو ربما كان سيضمن استيراد وسائل جديدة للكشف عن الإرهاب بدلا من (سونارات ) لاتشم إلا رائحة المنظفات والعطور وحشوات الأسنان ليضمن بالتالي أمانهم في بلد صار غياب الأمان عنه علامته الفارقة ..المهم أنهم لم يفكروا طويلا في هذا الأمر ولم يقصدوا مراكز الانتخابات ليصدمهم غياب اسمائهم منها واضطرارهم بالتالي الى تقبل فكرة ذهاب صوتهم في ورقتهم الفارغة الى جهات أخرى بوسيلة تزويرية لم تعد خافية على احد ..لم يسعفهم الوقت ليغمسوا أصابعهم في السائل الأزرق ويضعوا كل ثقتهم في شخص أو مكون ما ليمارسوا من جديد لعبة انتظار ما سينتج عن اختيارهم بعد أن يصبح المرشح في موقع المسؤولية وتصبح التجربة اكبر برهان على صدق شعاراته الانتخابية ..
أولئك الشباب لم ينتخبوا أحدا ..لا لاستخفافهم بهذه التجربة الديمقراطية أو لخيبتهم من نتائج الانتخابات السابقة فالمهم أن يحاول المرء مرة ومرتين وثلاث حتى يصح الصحيح وتصبح تجربة الانتخابات حرة وحقيقية ومثمرة ..جميعهم لم ينتخبوا لأنهم وبدلا من أن يختاروا مصيرهم السياسي اختارتهم دوامة الإرهاب لتقرر مصيرهم ..لم يعودوا بحاجة الى الأمل بتغيير الحاضر وانتظار الفرج في المستقبل فقد باتوا ماضيا وطويت صفحات سنواتهم الغضة بكل ماتحمله من ذكريات وحوادث وآمال وأمنيات ..لم يبق سوى عبق دمائهم يلطخ قاعة المقهى وجدرانه وأصداء قهقهاتهم تدوي في آذان أهاليهم الذين لملموا أشلاءهم بدلا من أن يلملموا أنفسهم ليتوجهوا الى مراكز الانتخابات ..بهذه الطريقة امتنع العديد من أهالي العامرية من ممارسة حقهم الانتخابي وقبلهم ذاق أهل الكرادة والحسينية والشوملي وكركوك وصلاح الدين وآخرين غيرهم مرارة ان يقرر الإرهاب مصيرهم بدلا عنهم ..
..جميع أولئك لم يفعلوا شيئا سوى انتظار عراق جديد يولد من رحم الظلم والانكسار وكل ذنبهم هو ذلك الانتظار بينما مازال هناك من يختبئ وراء ورقة توت أخيرة فيدعي حماية العراقيين من الإرهاب بقوة القانون بينما يترك له الساحة فارغة ليقرر مصائر العراقيين بدلا عنهم لأنه لايريد لهذا العراق أن يولد من جديد ..