TOP

جريدة المدى > عام > قراءة فـي ( موسيقى صوفية )

قراءة فـي ( موسيقى صوفية )

نشر في: 23 إبريل, 2013: 09:01 م

كيف يمكن للغة ان تستعير من الموسيقى سرديتها!؟ الم تستعر الموسيقى من اللغة دلالاتـــها و اشاراتها و معانيها و تعبيراتها!؟ و لو استمعنا الى أعمال بيتهوفن أو كورساكوف أو جايكوفسكي لوقفنا على هذه الحقيقة . و لكن ما يهمنا هنا هو التساؤل الأول ، وبين أيدين

كيف يمكن للغة ان تستعير من الموسيقى سرديتها!؟ الم تستعر الموسيقى من اللغة دلالاتـــها و اشاراتها و معانيها و تعبيراتها!؟ و لو استمعنا الى أعمال بيتهوفن أو كورساكوف أو جايكوفسكي لوقفنا على هذه الحقيقة . و لكن ما يهمنا هنا هو التساؤل الأول ، وبين أيدينا كتاب ( موسـيقى صوفية ) للروائية المبدعة لطفية الدليمي ، الذي كتب في تسعينات الحصار في العراق ، دون ان يكون لها إسقاط مفصل على الكتاب ، بل الكتاب برمته هو قميص واق للروح من تداعيات و فجائع تلك الفترة العصيبة ، تحصنتْ به الكاتبة كي تقي عالمها من الإنفلاش . وقد اشتغلت الكاتبة على تفكيك موضوعة الحب بين نماذج متعددة من الرجال والنساء في ازمنة و مواضيع متباينة.

و الكتاب مؤلف من ثلاث روايات قصيرة، و ثلاث  قصص. وفيها جميعا يتضح اسلوب الروائــــية الذي يميزها في التعامل مع الزمن كمادة سائلة ،فهي تتحرك بخفة بين الماضي و الحاضـــر دون فواصل كما هي النـــقلات في العمــــــل الموسيقي . ففي العمل الأول ( رابسوديات العصر الســـعيد) تشير الكاتــــبة الى ان العمــــــل ( بني على أساس هذا التأليف الموسيقي الشجي ــ الرابسودي ــ  القاسي المتغير ، و تطورت أحداث العشق فيه كما يتصاعد البناء الموسيقي العنيــــــــــــف في الرابسودي، وينطفئ هامدا في النهاية ). فأميمة الــــــتي ارتبطت بعلاقة حب مع أنيس ، تصف حالها  قبل ان تلتقي انــــيس بأنها كانت ( تشبه أرضا اجتاحها الزلزال) أو ( كنت قبل ان التقي بأنيس وحيدة مثل امــــــرأة  من سني القحط ) . و السردان الموسيقي و اللغوي يتداخلان ، و يستعير كل منهما قدرة الآخـر على التشكل و الامتداد في الماضي او العودة الى الحاضر عبر ضفيرة تعبيرية واحدة تعزز فيـــها اللغة طاقة الموسيقى على الإيحاء و الإيجاز في تشكيل المشاعر و تلونها ، فتقول ( عندما كـنا نستمع الى رابسوديات فرانز ليست ، كان زماننا يتناغم مع نسقها الموسيـــقي في مــــــزاجه المتغير المجنون الذي يتبدل خلال ثوان متنقلا بين الألم الجارح و المرح الصخاب و اللذة المذهلة).

فأميمة تصف صعود و هبوط مناخها الداخلي بين الانبثاق العاطفي و ضباب النهايات ، هكذا ( و علا صوت الكمان و أنين الكونترباص العريض الشهواني المتوحش الذي يهدد الخوف و الرغبات. حشرج أنينه وابتعد ، و تقدم الفلوت الصغير ، ناي الرعاة الساذج ، وغرد بنبرة ريفية معذبة مثل شدو طائر جريح ثم سكت. و الثقافة الموسيقية العريضة للروائية، و الذخيرة اللغوية المشـــــبعة بحــــمولة شعرية باذخة مسيطر عليها ، وضعتنا امام تجريب قصصي نادر ، محليا و عالميا ، فالموسيـــــــقى تغلغلت في بنية القص السردي و عززت طاقة اللغة على التعبير و التلون و الدوران حول الانفعالات وحتى حالات الصمت اللغوي انطقتها قدرة الموسيقى على الإيحاء ، ويتضح ذلك من خلال العمل المهم ( موسيقى صوفية ) الذي حمل الكتاب اسمه، و الذي يرصد حالة عشق بين العربــــــية سامية النعمان ) الباحثة في الموسيقى الصوفية ، والتركي من أصول بيزنطية ( فخري توركلي) المسكون باستعادة أمجاد بيزنطة  ، من خلال جمعه للمرايا ، التي يعتقد بأن اكمـــــــــــال عددها سيمكنه من رؤية صورة القسطنطينية الغابرة . و رغم ان حب الموسيقى الصوفية هو الذي جمـــع بينهما، الا انه كان يعيش في ماضي أجداده الروماني ، و يحاول سحبها الى عالمه ، رغـــــــــــم مقاومتها الشديدة . و الموسيقى الصوفية ارتبطت بأجواء الإنخطاف و الوجد الصوفيين ، الا انها هـنا ارتبطت بالحزن و الموت بعد رحيل (توركلي ) حرقا، كما ارتبطت بغبار الماضي و الانزياح عـــــــــن الحاضر ( واصلت الموسيقى الصوفية ترددها بدرجات متفاوتة من الوهن و الخفوت .. وهي تطـــلق

عليها غبار زمن فخري توركلي و مراياه و تماثيله ، و تذكرها بزمن الوقوف عند حافات الممـــــــالك

البائدة). و في مكان آخر تقول 🙁 خمدت الموسيقى الصوفية ، و غاب الخراب ، و ارتعشت ساميـــة

النعمان ، فألقت ثياب الحداد ، وارتدت ثياب الحياة) . اذن فالموسيقى التي كانت سبب اشتعـــــال

الحب بين قلبيهما ( الحياة ) أصبحت رمزا للموت ، بدلالة الأحداث و اصطباغها بالرماد ، و ليس بما

توحيه الموسيقى الصوفية نفسها من عوالم الألفة و الوجد. فالموسيقى و المرايا ارتبطت هنــــــا

بالماضي و ذبول الحياة ، وضمورهما يعني ابتداء الحياة ( انزلت المرآة من فوق الجدار ، و مضـــــت باتجاه الباب ، و حين فتحته و جدت رجل الحلم شاخصا ، و خيل اليها انها سمعته يقول : ها نحن معا يا سامية ، و اذ دهمتها المفاجأة اسقطت المرآة على الأرض فتناثرت الشظايا .

و في الرواية القصيرة الأخرى ( سليل المياه ) نجد انفسنا امام ما يمكن ان نسميه ( قصــــــــيدة الكتاب ) و التي كان يمكن ان تطبع في كتاب مستقل ، الا ان ظروف الطبع حالت دون ذلك كما يبدو والرواية التي تدور في بيئة نهر ديالى و أجوائها الريفية الحالمة و شخصية ( ايوب النــــــــــهري )المائية ، اشّرَتْ الى ما سيكون عليه أسلوب السيدة لطفية اللاحق في أعمالها ، كما في روايـــة سيدات زحل ) حيث تكثيف حالة الحلم الروائي ، و الضخ الشعري في لغة السرد فقـــــط ، دون لغة الحوار. فأيوب الذي جاء لدفن رفات امه في قريتها التي فرت منها مع ابيه بعد قصة حـــــــــب جمعتهما ، عاش في القرية أشبه بالحلم السائب ، بلا نسب او تحديد جنس ( خنثي ) كما شاع في القرية ، عاش بين ضفة و ماء ، كما ولد بين ضفة و ماء ، فكما كانت أمه تقول له دائما  من الماء خلقنا ، و إليه نعود ..   وهو الذي ولد و عاش مثل سمكة في الماء ، عاش في القرية ناقلا للماء الى بيوتها ، بلا ملامح تنسبه الى عالم النساء او الرجال ( كالماء تماما ) بلا مــــاض او نسب أو لون ، وحتى ذاكرته التي اختزنت مشهد غرق فتاة سقطت من طــوف كان يقوده ، كانــت تعمل بشكل حلمي ( التفت ايوب حيث رأى الظل المتحرك ، فإذا هي فتاة الطوف التي غرقـــــت انتحارا و لم تفارقه عيناها ، ابتسمت له في ما يشبه الحلم ، و تلاشت صورتها ، و رأى طائرا ابيض في مكانها ، ثم رأى سمكة ، بعدها لا حت نجمة في الماء..... ) و حتى ظروف اختفائه اثر حادث طوفان نهر ديالى ، كانت مثل حلم ذائب .. ايوب .. الكائن الذي قدم من الماء ، ومضى مع الماء . و في العمل الآخر الذي جاء تحت عنوان ( البحث عن شجرة الحكمة ) تتصدر عبارة ( لأمجـــــــدن

سيد الحكمة ) المأخوذة من قصيدة بابلية .. فهو حديث حلمي ايضا عن ( شجرة ) لم توجد فــــي مكان او زمان يوما ما ، انها ( شجرة الأحلام و الحكمة ) ، و الشجرة كرمز ، حازت على مكانة عالية منذ سومر ، و تكرست في الديانة المسيحية كرمز دال على ثنائية الأم العذراء و يسوع ، و قيـــل

انها نتاج تآزر الأنماط الرمزية العليا ( الماء ، النار ، الهواء ، التراب ) لذا اعتبرها رولان بارت خلاصــــة العناصر ، وقال انها: ميتا ـ عنصر ، غير ان شجرة لطفية الدليمي ( الشجرة الوحيدة التي قاومــــت أطنان المتفجرات.. و كل جزء فيها ينبض مقاوما الموت ( انها شجرة امتصت كميات هائلة من الضوء خلال الدهور ، تختلط بين الأشجار و يصعب تمييزها الا على العارفين ، تقاوم الأجواء و جور البشر ،

و حين تحترق تشع بموت بطيء .. شجرة كشفت الرقم الطينية انها ستظل تنتقل بين دجلــة و الفرات.. تقاوم الصواعق و الطوفانات ، و هي غير ( شجرة النظريات الذابلة ! ) كما وصفها ماركس انها ( شجرة الحياة دائمة الخضرة ).. و حتى نحن في سعينا الى شجرة الحكمة والحياة ( نحـــــن احلام تتخذ لها هيئات بشرية، نبحث عن الشجرة المخبوءة في اعماقنا او اعماق الأرض ).. و في العمل الآخر ( أخوات القمر ) معالجة للعنت و الخواء و ضياع المعنى و القسوة التي افرزتـــــها

فترات الحرب و الحصار ، من خلال ثلاث صديقات ( هدى و سلمى و حياة ) ، و من خلال  المقطــع التالي ، توجز لنا الطبيبة هدى حجم المعاناة.. ( النهايات حمراء من فرط خطأ البدايات..اعود مـــــن عملي في المستشفى ، مرضاي يزدهون بآلامهم العنيدة يحتمون بها من أخطار الحروب، النساء شاحبات مضطربات ، ينتظرن أشياء لا تجيء ، يتوسدن همس الخرافة و هن يبتلعن الحبــــــوب و الكبسولات، النساء يهجرن المرايا و الرجال و مستقبلهن خارج الردهات المعقمة  ..

و في آخر عمل ( أساطير ديكة الجن ) ، تقول الدليمي :بأنه محاولة للكتابة او العمل في رواية قصيرة ، وهنـــــــــا تتوغل الروائية لطفية الدليمي في عالم الكاتبة التي ستكتب عن ( اساطير ديكة الجن ) وهي تتخذها ( قناعا ).. حيـــث تستحضر الذاكرة الأنين الهائل و سيول الدم التي تلون الدرب التاريخي لعلاقة النساء بالرجال فــــي المستوى العصابي  التدميري.. نموذج ديك الجن الحمصي، الشاعر الذي قتل حبيبته غيرة عليها، و احرق جسدها و عجن منه كأسا لشرابه و بكائه حيث يقول:

يا طلعة طلع الحمامُ عليها

و جنى لها ثمرَ الردى بيديها

رويتُ من دمِها الثرى و لطالما

روى الهوى شفتيّ من شَفَتيها

و الكاتبة ( التي تماهت معها لطفية ) و هي تكتب في زمن الحصار و الحروب ، تلتقي في ( عالمها  الذين اصابهم وباء الحروب و اجتماع الذباب و الحروب على مائدة البلاد) .. وهو خيط الدم نفـــسه في حرب او قتول فردية ، وايا كانت المسوغات ،( فبعض الناس يستدفئ بالشمس و الحطب و الكهرباء ، و بعضهم بالنقود ، وبعض بالحب... و بعضهم بإشعال الحرائق بالآخرين و افنائهم)   و في محاولة الكاتبة تتجلى مقولة كفافي : ( الزلزال يغرق في نقطة دم ) التي تصبح لديــــــــــــــها الزلزال يغرق في نقطة كلمة ) . و بالعودة الى ديك الجن ، و نظيره الدموي الآخر شهريار ، تــــــرى الكاتبة ( ان ديك الجن لم يكن يحب صاحبته ، قدر حبه لزهوها فيه ، وفنائها فيه ، و بطولته في قتلها فخسر البطولة و الحبيبة ، ولم يبق منه سوى القاتل.. ) . و نرى ان الكاتبة ( داخل النص ) تخرج من

الحكاية ، لتعلق على عملية الكتابة نفسها، لترى ( ان الكاتب كالقندس الذي يعمل ، دون انتظـــار مسوغ لعمله ، فهي تكتب لتحطم ما يرتهنها في اليومي و المحدود.. تكتب و تتألق في ملــــــذات اللغة . وهي حين تستمر في الكتابة متتبعة خيط الدم الممتد بين الحاضر و الحكاية ، ترى (ان الزمن يفلت من كثافة النحيب الأنثوي العتيق مرتديا بردة شهريار ، و عمامة ديك الجن ..( وعندما اكتمـــــل الموت.. كان نص الكاتبة يقيم أسطورته خارج الوقت.. ).. وختاما لعرضنا الموجز ، نرى ان الكاتبــــــة

كان يمكن لها ان تجعل من مادة الكتاب تفصيلات تصدرها في عدة كتب ، ولكن ظروف الحصار حينها دفعتها بالتأكيد الى التكثيف و حصرها بين دفتي كتاب واحد.. ملاحظة اخيرة قبل ان ننهي القراءة تتعلق بالمرأة في مجمل الكتاب .. فالمرأة تبدو محبطة فــي علاقتها بالرجل حد التلاشي و الموت أحيانا.. فأميمة تتحدث عن علاقتها بأنيس كذكرى تصرّمت و الألمانية التي اقترنت بفخري توركلي كانت تعيش إحباطا في علاقتها معه ، انتهت بالطلاق، وكذا زوجته الثانية سامية النعمان عاشت حياة مضطربة معه انتهت بموته ، و أم أيوب النهري عاشـــــت العذاب مع ابيه بعد ان فرّت معه ، ثم فتاة الطوف شبه المخطوفة انتحرت ،و هدى و سلمى و حيــاة عشن العنت و المعاناة فترة الحصار، و حبيبة ديك الجن و نساء شهريار قبل شهرزاد ، انتهين الــى القتل ….. ( فالحياة تحمل الموت في كل آونة ، حتى في لحظة اللذة المطلقة يكمن العدم ) !!.. و ( الكاتبة ) في ( أساطير ديكة الجن ) كانت غارقة في جو النحيب الأنثوي العتيق …......

فهل كانت  الدكتاتورية و الطغيان و الحروب و الحصار  وراء جو الإحباط و الموت الذي عاشته الشخصيات ، وهي تغادر مخيال لطفية الدليمي ، كي تتماهى في ….. موسيقاها الصوفية!؟

  *موسيقى صوفية ـ من اصدارات  دار المدى ـ الطبعة الأولى   2012

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. Anonymous

    ممكن رابط الكتاب

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مدخل لدراسة الوعي

شخصيات أغنت عصرنا .. المعمار الدنماركي أوتسن

د. صبيح كلش: لوحاتي تجسّد آلام الإنسان العراقي وتستحضر قضاياه

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

في مديح الكُتب المملة

مقالات ذات صلة

في مديح الكُتب المملة
عام

في مديح الكُتب المملة

كه يلان محمدرحلة القراءة محفوفة بالعناويــــن المـــــــؤجلة مواجهتُها، ولايجدي نفعاً التسرعُ في فك مغاليقها.لأنَّ ذلك يتطلبُ مراناً، ونفساً طويلاً وتطبيعاً مع المواضيع التي تدرسها تلك الكُتــــب.لاشــكَّ إنَّ تذوق المعرفة يرافقه التشويق باستمرار،لكن الـــدروب إلى...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram