خالد الدرة قبل اكثـر من نصف قرن دبت فوق اديم العراق كتلة من الاعصاب الحساسة قادمة من الافغان فالهند في طريقها الى ارجاء العالم الاسلامي. وكانت هذه الاعصاب بدرجة من حرارة الامان وقوة العزيمة بحيث تلهب اعصاب الغير وتمنحه طاقة ما كان يحسها في اعصابه او يعهدها في دماغه،
ومن اجل ذلك حارب الطغاة هذه (الشحنة الكهربائية) بالرغم من ان هذا الجهاز العصبي لايملكه غير رجل اسمر شجاع حديد المزاج. لايملك من حطام الدنيا سوى دماغ انعشته هذه الاعصاب المرهفة، وسوى بدلة اسلامية واحدة تستر جسده النحيف ولايملك من المال البراق غير بريق عينيه. (1) وبالرغم ان الطغاة والحساد والمتزمتين قد بذلوا كل جهودهم للحيلولة دون تسرب قواه الروحية الى اذهان الشرقيين المتضعفين فان هذه القوى الجبارة قد تسربت فعلا الى كثير منهم وفعلت فعلها في انهاض شعوبهم، ولاتزال هذه القوى تتسرب الى الاعصاب والاذهان حتى يبلغ الشرقيون الكمال من النهوض والسؤدد كما كان يريده لهم هذا المتصوف العظيم، ويكفيه فخرا انه انجب امثال الامام محمد عبده وعبدالله نديم وقاسم امين ومصطفى كمال واحمد فريد وسعد زغلول وعبد المحسن الكاظمي وابراهيم الهلباوي وغيرهم من عظماء الرجال في الافغان والهند وتركيا وايران. واليوم نسمع بأن هذه الكتلة العصبية الطاهرة ستمر عبر اديم العراق وهي لا تمشي على الارض كعادتها ولكنها محملة على الاكتاف مشيعة بالقلوب مودعة بالدموع. ليس بمستطاع احد اليوم ان يحول دون مرور هذه الشعلة المقدسة فقد اندثر عهد الطغاة بجهوده الرائعة، ولابمقدور الحساد ان يناوئون على ما اصابه من حظوة فقد صار في ذمة التاريخ، ولا يمكن المتزمتون ان يصدوا تيار افكاره الحرة الجارفة فقد اضعفت روحه من قواهم وشلت من ارادتهم ولم تعد لهم قيمة في الوجود وهذا نفس ما قصد اليه السيد الافغاني الجليل يوم ناوأهم. نعم ليس بمقدور كل هؤلاء واشباههم ان يحولوا دون مرور هذه (الشعلة) او ان يقللوا من سطوعها فقد تسرب نورها الى اذهان رجال الشرق، وحرارتها الى اعصابهم وكرامتها الى دمائهم، وسيزداد هذا النور سطوعا والحرارة لهبا والكرامة فورانا ما ازدادت حرمة هذا الافغاني في الشرق حتى نبلغ شأو الغرب. هذا هو السيد جمال الدين الافغاني الذي خصص جهاز دماغه لتشخيص داء الشرقيين وتحري دوائهم وهو القائل بعد ان فحص مريضه: (وجدت اقتل ادواء الشرق انقسام اهله وتشتت آرائهم واختلافهم على الاتحاد واتحادهم على الاختلاف).. هذا بعض ما وجده طبيب الشرق العظيم في جسد مريضه، فسعى الى استضحار الادوية وكانت (الصيدلية) في ركن من اركان قلبه الكريم ينيرها وميض من دماغه العظيم، وعمالها مرهفات من اعصابه الدقيقة الحساسة. فانبرى طيلة حياته دائبا على توحيد كلمة الشرقيين متنقلا من اصلاح عضو الى آخر ففي ايران ينيرهم على الطغاة وفي الهند يوحدهم على الكلمة وفي العراق يعزز الاداب ولكنه لاينسى ايران بل يعمد الى جلب نسخة من كتاب (علي بابا) من تأليف جيمس موريو ويوعز الى احد اتباعه بترجمته الى اللغة الفارسية ثم يسافر الى البصرة لتهريب النسخ الممنوعة الى قلب ايران ليتداولها الناشئة ويعرفوا ماهم عليه من جهل ويدركوا سر سخرية الغرب منهم وهكذا يمهد لاصلاحهم وفي سوريا يخطب من اجل مصر وفي القاهرة يؤنب الخليفة وفي الاستانة يسعى من اجل البيئة الاسلامية كلها ويراسل من يرى فيه القدرة على الاصلاح. دأب هذا العبقري الانساني يخطب في مساجد المسلمين لينبههم الى الخطر المحدق بهم ويكتب في صحفهم ومجلاتهم ويشغل مطابعهم ليهيب بهم الى الاتحاد ويعالج الصحافة في باريس على (العروة الوثقى) فخطى بأن يكون له اثر بالغ في النزعات الشورى التي حدثت في عشرات السنين الاخيرة في الحكومات الاسلامية ونال اطمئنانا بان كثيرا من الممالك الاسلامية ستدأب على طلب الحرية. وحصل على طلاب نجباء عرف انهم سيسعون الى ترقية شؤون اقطارهم الداخلية من شتى النواحي الاقتصادية والاجتماعية والادبية والسياسية. وخزن ايمانا بأن الحكومات الاسلامية ستنتظم يوما ما في جامعة واحدة لتتمكن بهذا الاتحاد من منع التدخل الاجنبي في شؤونهم واكرم مما ناله في دنياه. هذا هو سياسي الشرق الاكبر يوم لم يكن في الشرق سياسي وهذا هو فيلسوفه الاشهر بعد ان يئس من نبوغ فيلسوف فوق ربوعه وهذا هو ثورويه الاول يوم كان بنوه كجثث بالية ترخ للذل. هذا هو جثمان موقظ الشرق من سباته سيمر ثانية عبر العراق بعد ان يطوف من جديد في ارجاء الشرق حتى يستقر في مهبطه الاصلي بلاده العزيزة الافغان فلا عجب ان تسترد الحكومة الافغانية جثمانه الطاهر فهو مفخرة شعبها وعنوان حيويتهم ومدون تاريخهم المجيد في لغات العالم وابنهم البار ولامر مثالي سام سيتركز هذا الطود في قلب آسيا وسيكون كالنار يضيء لكافة شعوب الشرق كمحج بينهم. (2) ولا ادري لم لا يجرب احد رجال الاصلاح في جيلنا هذا قتل اهوائه ورغباته الشخصية وتعصبه المرذول لينطلق نقيا كالروح قويا كالاعصار ثابتا كالطود الاشم، فلا اشك بان ستتم على يديه، بما يبذله من قوى روحية وسعي متواصل بما لا يقوى على القيام بمثله الوف ومئات المدارس وعشرات الجامعات.. ان مثل هذا الرجل لو وجد الاهتمام الكافي لقاد يقود الامة الى مافيه ا
طبيب وبستاني
نشر في: 30 أكتوبر, 2009: 05:33 م