يقول سام ويلر، باحث وناقد، التقى الكاتب الأمريكي الشهير راي برادبري صاحب رواية 451 فهرنهايت) - رحل في الخامس من حزيران 2012)- :إنه أثناء عمله على وضع بيوغرافيا لهذا الكاتب اتاح له برادبري فرصة الاطلاع على ما يحتفظ به داخل حاوية مليئة بالملفات موجودة في مرآب خلفي، مغطاة بالغبار، منها ملف بعنوان (حوار باريس) الذي أجرته المجلة (تحمل الإسم نفسه) معه أواخر السبعينات لكن الحوار بقي مخطوطة ولم تنشر.

لم يعرف السبب الكامن وراء عدم نشر الحوار هذا، عدا أن محرر الحوار، عدا ثمة ملاحظة وضعها المحرر، آنذاك، تقول إن برادبري، وعند بلوغه التسعين من عمره لم يتذكر ذلك الحوار الذي لم ينشر، ثم أن محرره قد توفي عام 2001.. لكن هذا الحوار أعيد تحريره مع ملحق يحتوي الجلسات الأصلية.

باردبري المولود عام 1920 ترك خمسين كتاباً، وعمل مطولاً في التلفزيون والسينما، مع ألفريد هيتشكوك وجون هيوستن (اقتباس رواية موبي ديك لهيرمان ميليفل) وأسس شركة انتاج مسرحية لإنتاج أعماله الخاصة، وبقي يعمل فيها حتى سنواته الأخيرة، كما نشر مجموعات شعرية عدة ، وعمل في ميدان العمارة، أيضاً، وحصل على جوائز قيمة، منها الميدالية الوطنية للفنون والجائزة الأمريكية للآداب.

فن الممكن

يقول برادبري عن سبب اختياره لكتابة روايات الخيال العلمي، التي أشتهر بها: رواية الخيال العلمي هي رواية الأفكار.. الأفكار تثيرني وتحفز مادة الأدرينالين في جسدي، ثم استتبعها باستعارة الطاقة من الأفكار نفسها. رواية الخيال العلمي هي أية فكرة ترد في الخاطر لكنها لم تتجسد بعد، لكنها سوف تتجسد سريعاً، لتغير كل شيء في عالم كل إنسان، حيث لا شيء يبقى كما هو مرة ثانية.

حالما تكون لديك الفكرة التي تغيّر جزءاً يسيراً من العالم فإنك تكتب رواية خيال علمي.. إنها فن الممكن، دائماً، لا فن المستحيل.

في السنوات الستين المنصرمة، عندما بدأت مهنتي ككاتب، فكرت بكتابة قصة ترسم حياة امرأة ابتلعت حبة منع الحمل وحطمت الكنيسة الكاثوليكية لتكون سبب ظهور حركة تحرير المرأة. ستكون هذه الفكرة مضحكة، لكنها ضمن سياقات الممكن لتصبح رواية خيال علمي ممتازة.

لو كنت أعيش في فترة ما قبل ألف وثمانمئة عام لكتبت قصة تتخيل المركبات الغريبة من نوعها وهي تتحرك عبر سهوب الولايات المتحدة الأمريكية لتقتل مليوني إنسان خلال سبعين سنة.. وهكذا فإن رواية الخيال العلمي ليست فن الممكن، حسب، إنما هي، فن الوضوح، وهذا ما توقعته عندما ظهرت السيارة التي تخيلتها وهي تدمر أكبر عدد من الناس.

وعلى سؤال يقول: هل تلبي روايات الخيال العلمي لدى القراء ما لم تلبه الروايات السائدة، يجيب برادبري: نعم، إنها كذلك، لأن الروايات السائدة لم تولي اهتماماً كافياً للتغيّرات الثقافية خلال الخمسين عاماً الأخيرة.

اعتراف نقدي

إن الأفكارالكبرى لعصرنا – التقدم الطبي وأهمية الانفجار الكوني لأبناء الجنس البشري - قد هُمشت وتم تجاهلها، والنقاد، عموماً، على خطأ، أو هم كذلك، في الخمسة عشر والعشرين عاماً الأخيرة، إنه لعار كبير.. ليس بمقدوري توضيح هذا إلا وفق ظروف الخيلاء الفكرية. 

ورداً على سؤال حول منحه جائزة الآداب الأمريكية، وهل هي علامة على اعتراف نقدي بكتاب الرواية العلمية، قال: نعم، إلى حد ما، لأن مثل هذا الاعتراف جاء متأخراً جداً، وقد تم تجاهل هذا النوع من الروايات لفترة طويلة جداً، وإذا ما قال كاتب إنه يكتب رواية خيال علمي فإنه سيجابه بالشتيمة أو بالسخرية في أفضل الأحوال، على أنه (فلاش غوردن!). 

قبل ستين عاماً، مثلاً، كان من المتعذر طبع ونشر كتب من هذا النوع، وعند العودة إلى منتصف أربعينيات القرن الماضي لن نجد أكثر من كتابين في الأنطولوجيا التي ترصد هذا النوع من الأدب، ولم نكن نملك ما يكفي المال لشرائهما بسبب فقرنا المدقع. آه، كم كنا فقراء!. وكم كان هذا الحقل مجدباً. وكم كانت تلك الكتابات لا تحظى بأي اهتمام، وعندما نشرت أوائل روايات الخيال العلمي، بداية خمسينات ذاك القرن، فأن جلها لم يحظ بأي مراجعة صحفية أو نقدية في المجلات الأدبية، بينما كنا الأقرب إلى أن نكون كتّاب روايات علمية.

أما عن كتاب روايات الخيال العلمي الذين قرأهم فيقول: إنني من المؤمنين بضرورة أن يقرأ الكاتب، حتى لو بمقدار قليل، في الحقل الأدبي الذي يشتغل عليه، ومن الصحيح أن تقرأ، في البدء، ما أنجزه الآخرون.

عندما كنت في السابعة عشرة قرأت كل ما كتبه روبرت هينلين وآرثر كلارك، والكتابات المبكرة لثيودور ستيرجون وفان فوغت، لكن التأثير الكبير علي كان لـ أتش. جي. ويلز وجول فيرن.. اكتشفت أنني أحب فيرن كاتب الخرافات الأخلاقية وأحد بناة العلوم الإنسانية الذي كان يعتقد بأن المخلوق البشري هو في وضع غريب في عالم أكثر غرابة، كما كان يؤمن بأن البشر ينتصرون إذا تصرفوا أخلاقياً.. إن بطله الروائي (نيمو) هو الوجه الآخر لبطل هيرمن ميلفيل في (موبي ديك) أهاب المجنون الذي جال حول العالم لنزع سلاح البشرية وإرشادها نحو السلام.