القسم الأول
1
منذ سنوات قاربت السبع وأنا أقيم في عمان- اعتذرت عن دعوات عديدة الى جامعات أوروبية وعراقية وعربية ومهرجانات مختلفة كالمربد وكلاويش و احتفاءات مقترحة من اتحاد الأدباء ، كان ثمة حاجز نفسي باهض بيني وبين العراق و حقيبة السفر وصعود الطائرة بعد انتهاك بيتي وتهديدات الميليشيات لي فترة العنف الأهلي ، ثم أضيفت لذلك مرارة التغرب والأذى الذي لحق بي في أوروبا طوال عامين ،و لسبب خفي - لم أشأ إخضاعه للتأويل- وافقت على دعوة المدى لحضور معرض الكتاب الثامن في أربيل دونما تردد ،فكانت مناسبة رائعة ان يُحتفى بي واحتفل بصدور أربعة كتب لي عن دار المدى – وكان وجودي في أربيل عيدا حقيقيا وسعادة لم احلم بها أو أتوقعها - فالسعادة تختارنا ولا نختارها ، أما البؤس فإنه نتاج سوء خياراتنا ، ولولا انني ذهبت لكنت حرمت من متعة الاحتفاء ولقاء صديقات وأصدقاء وقراء قد يتعذر اجتماعهم مرة واحدة إلا في مناسبة مهمة كمعرض الكتاب الدولي ، فشكرا للمدى: أشخاصا أعزهم ومؤسسة رصينة احترم أداءها الثقافي الذي يتفوق على أداء وزارات ثقافة متعدة..
2
ها أنا أخيرا في أربيل ولدى باب الطائرة يستقبلني شخصان أنيقان ودودان من تشريفات رئاسة وزراء إقليم كردستان ويصطحباني الى قاعة الشرف الفارهة في مطار أربيل الدولي ثم الى الفندق ، أطل من نافذة غرفتي في الطابق الـ12 لفندق (ديفان ) على مدينة تنهض متألقة من بين ركام العصور ،هي ذي أربيل التي أراها الآن بنظرة الطائر السعيد فالعين لم تخلق للبكاء والرؤية الحسيرة لبلد اجتاحه العنف والخراب كما اعتادت لسنوات - بل لتسعد برؤية الأمكنة المزدهية بالتغيير والتقدم وصناعة الغد ، هاهي مدينة الآلهة الأربعة ( اربائيللو ) أربيل - هولير تقوم من بين ركام الدهور والكوارث وحروب الإبادة لتعلن نفسها الحاضرة الأنيقة بعد أن نزعت ريش العنقاء المحترق و اجترحت المعجزة العمرانية والخدمية لمواطنيها ، فسلاما لمدينة تحتضن المستقبل وترعى الأمل والثقافة باحتضانها لمعرض دولي للكتاب تشارك فيه عشرات دور النشر العربية والكردية والمؤسسات الثقافية ..
وفي ربوع أربيل الجميلة الآمنة وبين حفيف الشجر و مباغتات المطر وفي قاعات وأروقة معرض الكتاب غمرني طوفان من الفرح والبهجة ووسمَ ملامحي طوال الأيام الخمسة التي أمضيتها في المدينة الجميلة بين الأصدقاء والكتب وطوقتني فيوض من الطاقة الايجابية التي تدفقت من دفء الاحتفاء وسماحة الوجوه ونبلها فكانت أربيل موئلا آمنا اتسع لحواراتنا ونقاشاتنا وهمومنا العراقية المزمنة وتطلعاتنا الثقافية مما جعل المعرض الدولي السنوي حفلا متواصلا وورشة للفكر والإبداع والجمال والأناقة سواء بأجوائه وتنظيمه ومعروضاته من الكتب او بالندوات التي عقدت في مسرحه الصغير بين الأروقة فأن ترى مثقفين يمثلون مختلف التوجهات الفكرية والثقافية من إسلامية وعلمانية لأمر يثير الفخر بتحقق أداء ديمقراطي في إطار ثقافي وسط معرض كبير للكتاب فغدت الأنشطة المختلفة تمارين جادة لممارسة قبول الاختلاف واحترام الرأي الآخر ، ثم أن تشاهد هذا العدد الهائل من الزائرين يرتادون المعرض دونما توقف من الساعة العاشرة صباحا حتى الثامنة مساء ليتزودوا بتموين عام كامل من الكتب ويمضون فرحين وهم يحملون صيدهم الثمين من الإصدارات الجديدة ، لأمر يثير الغبطة والأمل بأعياد مستديمة لعشاق القراءة والإنجاز الثقافي والتواصل المباشر بين المبدعين والناشرين والقراء الشغوفين بالثقافة -
يتبع