TOP

جريدة المدى > عربي و دولي > روح تاتشر المولعة بالقتال

روح تاتشر المولعة بالقتال

نشر في: 29 إبريل, 2013: 09:01 م

كانت مارجريت تاتشر أعظم رئيس وزراء لبريطانيا في القرن العشرين في وقت السلم. ففي ثمانينات القرن العشرين، منحتها أزمة الشيوعية في الشرق والديمقراطية الاجتماعية في الغرب الفرصة للقيام بأفعال عظيمة. ولكن اغتنام هذه الفرصة كان يتطلب وجود زعيم عظيم.كانت عل

كانت مارجريت تاتشر أعظم رئيس وزراء لبريطانيا في القرن العشرين في وقت السلم. ففي ثمانينات القرن العشرين، منحتها أزمة الشيوعية في الشرق والديمقراطية الاجتماعية في الغرب الفرصة للقيام بأفعال عظيمة. ولكن اغتنام هذه الفرصة كان يتطلب وجود زعيم عظيم.
كانت علاقة تاتشر بالزعيم السوفييتي ميخائيل جورباتشوف سبباً في فتح الطريق إلى إنهاء الحرب الباردة؛ وبينت سياسات الخصخصة التي انتهجتها للعالم كيف يتم تفكيك اشتراكية الدولة. وسوف يظل إحياء الليبرالية الجديدة في الثمانينيات معروفاً بمسمى ثورة ريجان-تاتشر.
وكانت تاتشر أيضاً رئيس الوزراء البريطاني الأكثر إثارة للخلاف في العصر الحديث، فكانت محلاً للإعجاب والذم بنفس القدر، ويرجع هذا في الأساس إلى أسلوب القوامة الذي انتهجته في تنفيذ سياساتها وأيضاً تلك السياسات. ولقد وصفت نفسها عن حق بأنها "سياسة يقين". واليقين اعتقاد راسخ لا يقبل الجدال. وهي لم تتنازل إلى مستوى الاسترضاء أو التوفيق، بل إنها كانت حريصة على تقسيم العالم السياسي إلى "نحن" و"هم". وعند دخولها إلى مقرها في داوننج ستريت، أعلنت تاتشر في اقتباس من القديس فرانسيس الأسيزي: "حيثما يوجد خطأ فإننا نجلب الحقيقة".
وكانت تاتشر تتحلى بالشجاعة والحزم، ولكنها لم تكن شهمة رحبة الصدر. فقد حققت انتصارات شهيرة، ولكنها لم تظهر أي قدر من الكرم في التعامل مع المهزوم، سواء بالقول أو بالفعل. ونتيجة لهذا، فشلت تاتشر في خلق حالة من الانسجام من الخلاف.
كانت مهمتها تنطلق من قاعدة إيديولوجية ضيقة. وكانت بالغريزة واللغة من أتباع فريدريش فون هايك. فبالنسبة لتاتشر، مثلها في ذلك كمثل هايك، كان الخطأ الفكري الأعظم في القرن العشرين يتلخص في الاعتقاد بأن الدولة قادرة على تحسين الجهود التلقائية التي يبذلها الأفراد. فما اعتبره آخرون دور الدولة في الارتقاء بأحوال الشعب، كانت تراه هي بوصفه الطريق الغادر إلى القنانة. ومن السهل أن ندرك السبب الذي جعل لهذه الرسالة صدى واسعاً في أوروبا الشرقية.
وبترجمة كل هذا إلى اللغة البريطانية، فإنه كان يعني إطلاق الباعث إلى خلق الثروة من اليد الميتة للاشتراكية والبيروقراطية والنقابات العمالية، والتي من منطلق فهمها للتاريخ كانت سبباً في انحدار بريطانيا. وعلى حد تعبيرها فإن رجل الخير الذي يتبرع لإغاثة الفقير كان محل إعجاب لأنه كان يساعد نفسه قبل أن يساعد الفقير.
كان هذا البرنامج المتعصب للإحياء الوطني سبباً في ابتعادها على نحو متزايد عن النهج الأكثر اعتماداً على الدولة في أوروبا القارية. في خطاب بروج الشهير في عام 1988، أرعدت تاتشر قائلة: "نحن لم ننجح في تعديل حدود الدولة في بريطانيا، فقط لكي نراها تعود إلى سابق عهدها من جديد على مستوى أوروبي، وفي ظل ممارسة الدولة الأوروبية الخارقة نوعاً جديداً من الهيمنة من بروكسل". والواقع أن تركت علاقات بريطانيا بالاتحاد الأوروبي في حالة من الفوضى التي لم تتعاف منها قط.
بطبيعة الحال، كانت تاتشر، مثلها في ذلك كمثل أي سياسي داهية، تعرف أي المعارك التي لا يمكنها الفوز بها؛ وأيها لابد من إرجائه؛ ولكنها كانت تفضل دوماً الفوز في معركة على التوصل إلى تسوية. ولقد استحقت لقب "المرأة الحديدية" عن زعامتها الحاسمة في حرب فوكلاند؛ غير أنها كانت تخوض أغلب معاركها ضد قطاعات من شعبها ــ "العدو في الداخل"، مثل عمال المناجم الذين سحقتهم في إضراب 1984-1985، أو مجلس لندن الكبرى بقيادة كين ليفنجستون، الذي ألغته في عام 1986.
لقد انشغلت تاتشر بأصولها المتواضعة كابنة بقال في جرانثام، ولم يكن لديها الوقت للمؤسسة، التي اعتبرتها مسؤولة عن الانحدار الأخلاقي والاقتصادي في أوروبا. وكانت تفهم أبناء الطبقة المتوسطة الدنيا، وتتقاسم معهم تطلعاتهم المادية وانحيازاتهم الأخلاقية، وساقت الحجج لصالح خفض الإنفاق الحكومي بلغة ربة منزل تدير حساباتها الأسبوعية. وكافأت الأفراد "الطامحين" في الطبقة العاملة من خلال بيع منازل المجلس بأسعار مخفضة. وكان الدعم المقدم للفقراء المستحقين في نظرها أشبه بالصدقة المقتطعة من ميزانية الأسرة. ورغم أنها كانت السياسية الأكثر نجاحاً على الإطلاق في تاريخ بريطانيا، فإنها كانت تعتبر الحركة النسائية سُماً، ولم تفعل إلا أقل القليل لتشجيع النساء على الاقتداء بها.
وكان رد تاتشر على الاضطرابات الصناعية المتنامية في السبعينات اللجوء إلى السياسة النقدية لتسييل التضخم، وفرض القيود القانونية على السلطة النقابية، وخصخصة الصناعات المتضخمة المملوكة للدولة ــ "بيع الأدوات الفضية التي تمتلكها الأسرة" على حد تعبير رئيس الوزراء المحافظ السابق هارولد مكميلان. وكان الهدف وراء هذه التدابير الثلاثة استعادة سلطة الدولة والدينامية الاقتصادية.
وبالاستعانة بنفط بحر الشمال، نجحت تاتشر في عكس التدهور الاقتصادي النسبي لبريطانيا. ولكن انتصاراتها جاءت بتكلفة اجتماعية ضخمة، فارتفعت معدلات البطالة إلى 12% من قوة العمل (ثلاثة ملايين شخص) في عام 1984، وهي الأعلى منذ ثلاثينيات القرن العشرين. فكانت التاتشرية بالنسبة لأولئك الذين يعيشون في الشمال الصناعي بمثابة تخريب للمستقبل. وبهذا، تخطى الاقتصاد الجديد القائم على التمويل والتسوق جيلاً كاملا.
وبرغم إعجاب كثيرين بتاتشر، فإن أغلب البريطانيين لم يقتنعوا قط بأن سبيل تاتشر كان السبيل الوحيد. وبرغم فوزها بثلاثة انتخابات متعاقبة، فإن المحافظين لم يتمكنوا قط من الحصول على أكثر من 43% في أي اقتراع شعبي، وهي نسبة أدنى كثيراً من المستويات التي حققها زعماء لحزب المحافظين ــ تشرشل، وأنتوني إيدن، ومكميلان ــ في الخمسينيات. ولم تتجاوز شعبيتها في استطلاعات الرأي الشعبية نسبة 50% إلا في خمسة أشهر من أصل 137 شهرا في منصبها.
والواقع أن الناخبين أصبحوا أقل تاتشرية أثناء سنوات عملها في منصبها في ما يتصل بالشؤون الاقتصادية والاجتماعية. وكان حماسها التبشيري يلقى آذان صماء. وكانت تدين بقوتها لمعارضة منقسمة ونظام انتخابي معيب.
وقد عرضت تاتشر ملخصها الخاص لمشروعها السياسي: "الاقتصاد هو المنهج، والهدف هو تغيير النفوس". وإذا كان هذا قابلاً للقياس فبوسعنا أن نقول إن التاتشرية بالرغم من إنجازاتها كانت فاشلة.
كان التحول الذي روجت له تاتشر نحو التمويل سبباً في تفاقم التفاوت بين الناس وجعل الاقتصاد أكثر تقلبا. كما كانت سياسة "الحق في الشراء" التي انتهجتها تاتشر سبباً في ارتفاع حاد في أسعار المساكن، الأمر الذي شجع الأسر على المزيد والمزيد من الاقتراض. وكان "الانفجار العظيم" في عام 1986، الذي ألغى القيود المفروضة على الخدمات المالية، سبباً في تحويل السلوك المحفوف بالمخاطر إلى سلوك معتاد. لقد نثرت هذه الإصلاحات بذور أزمة 2008 المالية.
كانت "القيم الفيكتورية" التي سعت تاتشر إلى تعزيزها متعارضة مع الاحتفاء المنفلت بالثروة المادية الذي جلبه حكمها. فتحو المجتمع الأخلاقي، القائم على المصلحة الذاتية اللائقة، الذي تمنت تاتشر تأسيسه، إلى مجتمع جشع، يقوم على المصلحة الذاتية الفجة. وإذا كانت قد استشعرت أي قدر من التشكك في وقت لاحق، فإننا لم نر منها أي بادرة تشير إلى ذلك.

 عضو مجلس اللوردات البريطاني، وأستاذ فخري لعلوم الاقتصاد السياسي في جامعة وارويك. ترجمة: هند علي.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

السوداني يتلقى دعوة رسمية لزيارة سلطنة عُمان

القانونية النيابية تكشف لـ(المدى) موعد استئناف جلسات البرلمان.. هذا أبرز ما سيُمرر

السوداني والحلبوسي يؤكدان أهمية مواصلة تنفيذ ورقة الاتفاق السياسي

مبابي يهدد باريس سان جيرمان بعقوبات خطيرة

قراءة أمريكية لتداعيات سقوط الأسد على العراق

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

ترامب: تركيا استولت على سوريا بطريقة "غير ودية"

بابا الفاتيكان: تعرضت لمحاولة اغتيال خلال زيارتي العراق

صحيفة عبرية: نتنياهو لا يريد انهاء الحرب في غزة لاستمرار نظامه الديكتاتوري

الحوثي يعلن الحرب على إسرائيل ويهدد "بن غوريون"

مقتل زعيم "داعش" بضربة أميركية في سوريا

مقالات ذات صلة

قراءة أمريكية لتداعيات سقوط الأسد على العراق

قراءة أمريكية لتداعيات سقوط الأسد على العراق

متابعة/ المدى بعد أسابيع قليلة على سقوط نظام بشار الأسد، طرح "معهد السلام الأمريكي"، جملة من التأثيرات المحتملة لما قد يجري في سوريا، على العراق والعراقيين. وفي تقرير للمعهد حذر من أن الكرد ومكونات...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram