TOP

جريدة المدى > سينما > التفاعلية التلفزيونية .. دراسة في الصراع الثقافي المعاصر

التفاعلية التلفزيونية .. دراسة في الصراع الثقافي المعاصر

نشر في: 1 مايو, 2013: 09:01 م

تمثل ما بعد الحداثة حركة فكرية تقوم على رفض الأسس التي ترتكز عليها الحضارة الحديثة، كما ترفض المسلمات التي تقوم عليها ، أو في الأقل ترى أن الزمن قد تجاوزها وتخطاها، ويذهب الكثير من مفكري ما بعد الحداثة إلى اعتبارها حركة أعلى من الرأسمالية التي تعتبر

تمثل ما بعد الحداثة حركة فكرية تقوم على رفض الأسس التي ترتكز عليها الحضارة الحديثة، كما ترفض المسلمات التي تقوم عليها ، أو في الأقل ترى أن الزمن قد تجاوزها وتخطاها، ويذهب الكثير من مفكري ما بعد الحداثة إلى اعتبارها حركة أعلى من الرأسمالية التي تعتبر هي الطابع الأساسي المميز لهذا العصر، وأن ما بعد الحداثة تهيئ لقيام مجتمع جديد يرتكز على أسس جديدة تماماً غير تلك التي عرفها المجتمع العالمي الحديث، ويبدو أن مفكري ما بعد الحداثة قد تأثروا بذلك بأفكار بعض الفلاسفة الألمان مثل هايدجر الذي كان قد أثار فكرة إمكان قيام أسس جديدة حول الإنسان المعاصر.

والسؤال المهم الذي يتبادر إلى الأذهان إلى وقت قريب هو، هل هذه التغيرات تعني أن عصر الحداثة قد ولى إلى غير رجعة؟ والعالم أمام حضارة وثقافة أخرى جديدة هي حضارة وثقافة ما بعد الحداثة ؟
 إن أنصار وأتباع ما بعد الحداثة يوجهون كثيراً من الانتقادات إلى إنجازات عصر الحداثة وموقفها من الفكر والفن والسياسة والحياة، وهو موقف يرفع من شأن العقل ويرى فيه مصدر كل تقدم في المعرفة وفي المجتمع وأنه وحده هو مصدر الصدق وأساس المعرفة العلمية وهو القادر على اكتشاف المعايير النظرية والعملية التي يهتدي بها الفكر والفعل على السواء،كما نرى ذلك في طروحات الشكلانية الروسية أو البنيوية وغيرها ومع ذلك، فإن ما بعد الحداثة ترى أن الزمن قد تغير، وأن الظروف العامة قد تجاوزت كل هذه الإنجازات نتيجة لتقدم أساليب الإعلام والاتصال بوجه خاص، وظهور أشكال جديدة من النصوص تتطلب قيام نظريات ومفاهيم تتلاءم مع الأنماط المعرفية الجديدة بعد ازدياد الاتجاه نحو العولمة، مع تعدد الاتجاهات الثقافية المواقف الفكرية، "وظهور اتجاهات جديدة في السرديات اشتغلت على (ما وراء اللغة) و(ما وراء السرد) والنص المفتوح ،وكذلك في الفن حيث تجاوزت المدارس الحديثة مثل الانطباعية والتعبيرية والسريالية وما إليها"(1)، وتحررت من كل القيود التقليدية وبخاصة في العمارة حيث يمكن الجمع بين عناصر غير متجانسة تخرج تماماً عن المألوف، وامتداد ذلك إلى بقية الفنون التعبيرية مثل الرقص والباليه بل والموسيقى والأفلام السينمائية.
وقد يرى بعض المنظرين أن الاختلافات بين الحداثة وما بعدها ليست اختلافات شاسعة، حيث يزعمون "أن ما بعد الحداثة ليس سوى نوع من الألعاب اللغوية في بنية النصوص" (2)، وإنهم استحدثوا كثيراً من المصطلحات التي لم يستقر بعضها في شكله النهائي مثل اللغة الطفيلية و(ما وراء اللغة) و(ما وراء السرد) وغير ذلك، وعليه إذا كانت ما بعد الحداثة لعبة لغوية كما يدعون، فإنها استطاعت توجيه الانتباه إلى أبعاد الحقيقة الإنسانية ، ولكن الأمر لم يتوقف في حدود اللغة كما بينا بل تداخل في كل تمفصلات الحياة المختلفة.
         ومن تمظهرات ما بعد الحداثة مفهوم التفاعلية في الأدب والفن عموما الذي انفتح على المتلقي الشعبي (خلاف النخبوي) بوصفه ذاتا فاعلة مؤثرة ومغيرة في بنية النص المقدس والمنغلق على صاحبه سابقا والذي ظهر مع العديد من المقاربات التي اهتمت بمفردات التحليل مثل الفرد والمجموعة والعلاقات الذاتية في التجارب اليومية، وترسخت بوصفها ردة فعل على النظريات البنيوية-الوظيفية التي هيمنت ولفترة طويلة على السوسيولوجيا. وقد أحيت هذه المقاربات والتي وصفها المنظرين أرمان وميشال ماتلار ب"عودة اليومي"(3) .
       شهدت فترة السبعينات من القرن المنصرم ازدهاراً كبيراً لفن الصورة المتحركة وأصبح المتلقي يبحث عن الصورة المرئية التي تثير الجمال والمتعة فيه ، وهذا بطبيعة الحال جعله يبحث عن قنوات تلفزيونية متعددة تلبية لرغباته ، مما حدا بكثير من شركات الاتصال في أمريكا وغيرها من الدول المتقدمة من القيام بدوائر اتصالية تتيح للمتلقي الحصول على اكبر عدد من القنوات التلفزيونية التي يفضلها ، وكان الكابل المشترك هو الحل الذي جعل المتلقي ينفتح على فضاءات أخرى وان كانت محدودة ، وتبقى العين البشرية تبحث عن كل ما هو جديد محاولة كسر الملل الذي سببته لها التجربة السابقة .
وقد شكلت فترة منتصف الثمانينات تحولا اتصاليا تكنولوجيا هائلا اقترن بالمديات الواسعة للبث الفضائي للقنوات التلفزيونية ، وأصبحت الأقمار الصناعية تغطي العالم بأسرة وأنشئت المئات من القنوات الفضائية والتي أصبحت بمتناول المتلقي يختار منها ما يشاء ويترك ، وبدأ المتلقي ينفتح على الآخر مطلعا على حضاراته وآدابه وفنونه ، كل هذه الأسباب وغيرها فتحت الباب على مصراعيه أمام الحرب المعلوماتية الجديدة
أما فترة التسعينات فقد شهدت تنامي محاولات من نوع آخر ، محاولات دعاة الحداثة الذين نظروا إلى جلب المتلقي إلى داخل النص بوصفه ذاتا مؤثرة داخل النص لا متلقيا سلبيا فقط ، بل يستطيع إن يغير في بنية النص من خلال وجودة ، سواء كان مشاركا أو منظما أو مصوتا ، وهذه الدعوة لقيت رواجا في الأدب منذ السبعينات من خلال تنظيرات الناقد التفكيكي جاك دريدا ، أما في الفن التلفزيوني فلم نشهدها إلا في منتصف التسعينات ، أي جعل المتلقي جزءا من البرنامج التلفزيوني ، "وهي نقطة انطلاق التفاعلية التلفزيونية حيث نرى النجاح الجماهيري لأول شكل تفاعلي تلفزيوني - خط التاريخ Data line – فقد بدأ العرض في تموز – يوليو1999" (4)، وحث العرض المشاهدين الدخول إلى الانترنت من اجل التصويت- مجرم أو بريء- استجابة لتغطية التلفزيون لمحاكمة مجرم  ، إن هذا البرنامج الذي قدمته قناة Nbc)) الأمريكية يعد البداية الأولى للبث التفاعلي التلفزيوني ، والذي جعل من المتلقي جزءاً لا يتجزأ من بنية العرض ، وهنا يركز الباحث على نقطة مهمة هي ، إن بداية التفاعلية التلفزيونية بالتأكيد هي في هذا التاريخ ومع برامج تلفزيون الواقع ، بالرغم من إن برامج تلفزيون الواقع سبقتها بعدة سنين أي مطلع التسعينات ، ولكن التسمية المتكاملة لبرامج تلفزيون الواقع اكتسبت كمالها مع انطلاق البث التفاعلي ، مما حدا بأحد منظري تلفزيون الواقع ومنتج البرنامج الواقعي(الأخ الأكبر)(Big Brather  )الذي قدمته القناة الهولندية الأولى عام 1991 ثم قدم بأشكال متعددة في العشرات من الدول العالمية (غاري كارتر) أن يقول : "يجب على العرض حتى ينطبق عليه تلفزيون الواقع أن يتضمن عنصر تفاعل الجمهور"(5) ، حتى عدت البرامج التفاعلية هي الحاضنة الأولى والأخيرة لبرامج تلفزيون الواقع ، ثم توالت البرامج التفاعلية مثل برامج المسابقات والتي ركزت على تصويت المتلقي من خلال البريد الالكتروني أو الهاتف ولكنها لم تأخذ كينونتها المتكاملة مثل برامج تلفزيون الواقع وبالنتيجة انصهرت في برامج تلفزيون الواقع ، ثم تطورت تفاعلية المتلقي في برامج تلفزيون الواقع ليخرج المتلقي من كونه مصوتا فقط إلى مغير للنتيجة كما في برنامج (المهمة المستحيلة ) والذي قدمته قناة FOX  الأمريكية عام 1996 ، ثم شهد القرن الحادي والعشرون مرحلة أكثر أهمية للتفاعلية من خلال التصويت على اختيار النهايات والتحكم بالبنية الدرامية ، والحقيقة أن البرامج التفاعلية تنصهر في برامج تلفزيون الواقع وأن البحث في تحديد ماهية البرامج التفاعلية وأشكالها فضلا عن التراكيب الدرامية والدلالية العاملة فيها هو البحث في برامج تلفزيون الواقع والتي تعد مادتها المعروضة هي البرامج التفاعلية التلفزيونية ، فلا توجد برامج تفاعلية لها شكلها الخاص عدا برامج تلفزيون الواقع وبعض برامج المسابقات التي انصهرت مع برامج تلفزيون الواقع ، وهنا نجد سؤالا يطرح نفسه هو ، ما الداعي لذكر البرامج التفاعلية في عنوان الدراسة مادامت تصب في تلفزيون الواقع ، والإجابة هنا أن ذكر البرامج التفاعلية جاء لكون البرامج التفاعلية هي الحاضنة الرئيسية لبرامج تلفزيون الواقع والتي لا يمكن دراستها دون ذكر الحاضنة الأم التي هي البرامج التفاعلية ، فضلا عن سبب آخر مهم الا وهو فك الاشتباك والخلط الكبير لدى المتخصصين بين البرامج التفاعلية وبرامج تلفزيون الواقع.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

وفاة ديڤيد لينش فنان الرؤى المميّزة.. وأيقونة السينما الاميركية
سينما

وفاة ديڤيد لينش فنان الرؤى المميّزة.. وأيقونة السينما الاميركية

متابعة المدىوديفيد كيث لينش صانع أفلام وفنان تشكيلي وموسيقي وممثل أمريكي. نال استحسانًا لأفلامه، والتي غالبًا ما تتميز بصفاتها السريالية الشبيهة بالأحلام. في مسيرة مهنية امتدت لأكثر من خمسين عامًا، حصل على العديد من...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram