المرحـلة الثـانية تمتد هذه الفترة من الأربعينات وحتى نهاية الخمسينات ، إنها مرحلة مهمة وأساسية في تطور العمارة الحديثة في العراق ، واتصافها بالحدث التأسيسي نابع كون أن نماذجها المتحققة تعاطت مع قيم معمارية جديدة ،أفضت إلى ظهور مبان ومنشآت اتسم
المرحـلة الثـانية
تمتد هذه الفترة من الأربعينات وحتى نهاية الخمسينات ، إنها مرحلة مهمة وأساسية في تطور العمارة الحديثة في العراق ، واتصافها بالحدث التأسيسي نابع كون أن نماذجها المتحققة تعاطت مع قيم معمارية جديدة ،أفضت إلى ظهور مبان ومنشآت اتسمت تكويناتها على قدر كبير من الحداثة ، تلك الحداثة التي لم يألفها المشهد المعماري العراقي من قبل .
إن السمة البارزة التي تتصف بها عمارة هذه الفترة وتختلف عن المرحلة السابقة كون أن لغتها الفنية أمست قريبة جداً إلى طروحات لما يعرف " بالعمارة الحديثـة " – أو ما عُرف لاحـقاً " بالتـيار الدولـي" – International Style.
ولئن كانت غالبية المشاريع التي نفذت في الفترة السابقة تنطوي على مبانٍ فردية ومتفردة، فإن طابعاً جديداً ومختلفاً شق له طريقاً خاصاً به، وأعني به التصميم وفق مفهوم المجمع Complex ،الذي يعد فيه المبنى المنفرد جزءاً من مجمع تكويني مركب ومعقد. في عمارة هذه المرحلة ثمة توظيف واسع للأساليب والمواد الإنشائية الحديثة، فضلاً عن محاولة إدخال منظومات الخدمات الهندسية المعقّدة في صميم نسيج المباني لأول مرة ، كالخدمات الكهربائية ،مثل المصاعد، وأنظمة تكييف الهواء، ومنظومات توفير الماء والمجاري المعقدة.
هناك أسباب كثيرة عجلت في عملية هذا التغيير السريع والدراماتيكي في مسار العمارة ببغداد ، منها ازدياد موارد البلد من عمليات استخراج النفط ، وانتشار مبادئ العمارة الحديثة في بلدان عديدة خارج بلدان القارة الأوروبية، فضلاً عن ازدياد عدد المعماريين العراقيين، كما أن دعوة المعماريين الأجانب للعمل في العراق إبان تلك المرحلة ساهم أيضا في عملية تسريع ذلك التغيير. إضافة إلى الرغبة السريعة في سدٌ النقص الكبير من المباني والمقرات الذي عاناه العراق على مدى عقود.
كما أسهم في خلق أرضية خصبة لمجمل التطورات الجديدة في حقل النشاط المعماري الأجواء الإبداعية التي اتسم بها الفضاء الثقافي العراقي وقتذاك، والذي تبدى في ميادين إبداعية كثيرة ، كالرسم والشعر والأدب؛ فجواد سليم وفائق حسن ومحمود صبري وحافظ الدروبي وجماعتهم كانوا يرسمون بأساليب ليست جديدة حسب ، وإنما كان نتاجهم الفني يرتقي إلى منسوب آخر"الصرعات" الباريسية؛ وكان بدر شاكر السياب ونازك الملائكـه، وعبد الوهاب البياتي وآخرون يقتحمون الطرق التقليدية للشعر بادئين موجة جديدة دعيت "بالشعر الحر". والحال ذاته ينسحب على إبداعات عبد الملك نوري وذو النون أيوب وغائب طعمة فرمان في مجالي القصة والرواية. وعلى العموم فإن الحركة الثقافية كانت تمـور وتعجّ بالجديد وغير المألوف والطليعي، مما ساهم في المحصلة النهائية في تقبل الطروحات الحديثة في العمارة وتبني أهدافها.
وتأسيساً على كل ذلك ، بدأت تظهر في سماء بغداد ، أول مرة مبانٍ متعددة الطوابق ، وهو حدث معماري كـبير لـه أهميته الخاصـة. وكالصدمـة القـوية يظـهر فـي خـط سمـاء بغـداد و"سيـلويتـها" Silhouette المبنى الإداري "لعمارة سوفير" الذي صممه مدحت علي مظلوم في سنة 1946 الواقع في شارع الرشيد برأس القرية، بالقرب من ساحة الزعيم عبد الكريم قاسم . كان ارتفاع المبنى أربعة طوابق.. كان كافياً لتأشير مرحلة جديدة في البناء العراقي.. وقد أعقب هذا المبنى تنفيذ جريء لمبنى آخر وهو عمارة الدامرجي التي نفذها نيازي فتو سنة (1948). ويقال إن مصمم المبنى هو معمار مصري، تجهل، مع الأسف، الأوساط المعمارية المحلية اسمه . وفي هذه المرة وصل عدد طوابق المبنى إلى رقم خيالي، ستة طوابق، الأمر الذي أكسب المبنى شهرة واسعة في كل أرجاء العراق، ونسج حول ارتفاعه الشاهق والعالي جداً (حسب مقاييس ذلك الوقت) أمورا غير معقولة ترقى إلى مصاف الحكايات والأساطير… والحق، أن المبنى لا يثير، ما عدا ارتفاعه، أي شيء مميز آخر. فمعالجاته المعمارية غاية في التواضع سواء كان ذلك في مخططاته أو في واجهاته، وحتى المواد الإنشائية المستعملة فيه ليست كلها جديدة، بل إن أسلوب بنائه وتنفيذه هو أسلوب أقرب إلى التقليدية منه إلى الأساليب الإنشائية الحديثة. ورغم وجود مبان أخرى متعددة الطوابق نفذت في تلك المرحلة ، مثل عمارة "الدفتـردار" عام 1953 التي وصل ارتفاعها إلى 14 طابقاً ، وكذلك تصميم المرحلة الثالثة لمصرف الرافدين بارتفاع يصل إلى 15 طابقاً ؛ فقد ظلٌ ارتفاع عمارة الدامرجي وتأثيراته الرومانسية على شعور البغداديين من الأمور التى لا تنسى بسهولة .
من الأمثلة الجميلة والمهمة التي نفذت في مطلع هذه الفترة واتسمت لغتها التصميمية في أطروحات العمارة الحديثة بصورة جلية وظاهرة هو – مبنى مشغل الهلال الأحمر في العلوية ، الذي يعود تنفيذه إلى عام 1948 ،وقامت بتصميمة المعمارية "آلن جودت الأيوبى مع زوجها المعمار نزار علي الأيوبي". لقد انطوت معالجة هذا المبنى على توافر ثراء التفاصيل المعمارية ورهافتها واتسمت واجهاته في لغة جريئة وحديثة عززتها توظيفات اللون بصورة واضحة ومكشوفة، واستخدام تقسيمات حديثة لأطر النوافذ والأبواب وأسلوب بستنة Landscaping المبنى وتشجيره. كل ذلك أهّله ليكون من أجمل نماذج تلك المرحلة وأكثرها تأثيراً على الممارسات التصميمية لعموم مرحلة الخمسينات. كما صممت "ألين"– مدرسة ثانوية في المنصور عام 1956 دعيت بمدرسة الأمريكان– التي استعارت في تصميمها الكثير من مفردات مشغل الهلال الأحمر السابق.
تشغل أعمال عبد الله إحسان كـامل (1919-1985) حيزاً كبيراً وهاماً في خلق بوناراما عمارة المرحلة الثانية ، ويعد مبنى ( خان الباشا ) في شارع السمؤال ببغداد (1957) من أنضج الحلول المعمارية لتلك الفترة . كما يعد المبنى في اعتقادنا ، جراء الحلول المنطقية وحداثة الأشكال التي يزخر بها، واحداً من خيرة الأمثلة المعمارية التي صممت آنذاك، وهو يرتقي بتكويناته وتفاصيله الجميلة والذكية في آن، يرتقي إلى روائع عمارة الشرق الأوسط عموماً. كما ساهم المعمار مع مجموعة من المعماريين الآخرين في تصميم مصرف الرهون ( وزارة المالية لاحقاً )عام 1957، وعمارة منير عباس في الباب الشرقي وكثير من الدور السكنية لعوائل مختلفة في بغـداد.
أما جعفر علاوي (1918) فقد صمّم ونفّذ مباني عديدة ، منها عمارة مرجـان في الباب الشرقي 1953-1954 ، ومطعم العاصمة في شارع الرشيد بالميدان، (1952)، وثانوية الحريري في الوزيرية (1953) والمدرسة الجعفرية في صبابيغ الآل 1946، ومبنى سامي سعد الدين في شارع الرشيد على ساحة الرصافي (1949) ،الذي شغلته وزارة الصحة لفترة طويلة .
وُيعد نشاط المعار مدحت علي مظلوم نشاطاً غزيراً ومتعدداً إبان هذه المرحلة ؛ فقد صمم مسبح الأمانة (1947) في منطقة المسبح ببغداد ونفذ عمارة "سوفير " في شارع الرشيد 1946 وسينما الأرضروملي سنة 1946 في علاوي الحلـة ومبنى جمعية التمور العراقبة في الصالحية بداية الخمسينات ومستشفى الرمد (1949 ) بالصالحية أيضا وكازينو 14 تموز في مطار المثنى ببغـداد، مع هشام منير.
كما تعد مساهمة "فيليب هيرست " – وهو معماري إنكليزي عمل طويلا في مصلحة السكك الحديدية ونفذ مشاريع كبرى في البلد ؛ ومن أجمل مبانيه مبنى مصرف الرافدين بمراحله الثلاث ، ولاسيما معالجته لواجهات المرحلة الثانية التي نفذت في أعوام 1953- 1954 . كما نفذ المعمار معمل نسيج الكاظمية (معلوم أن هيرست صمم الفندق الملكي في سرسنك في الشمال ، إضافة إلى محطة قطار بعقوبة بالاشتراك مع عبد الله إحسان كامل) .
أما أعمال محمد مكيه الذي عاد إلى العراق عام 1946 فقد شملت تصاميم بيوت سكنية عديدة اتسمت تكويناتها بالفضاءات الواسعة واستمرار توظيف الطابوق للواجهات كمادة رئيسية للإنهاءات، كما صمم المعمار مستوصفاً طبياً في ساحة السباع عام 1949 وفندق ريجنت بالاس في شارع الرشيد بمنطقة السنك (1954).
وقد عمل في تلك الفترة معماريون شباب ،مثل رفعة الجادرجي الذي صمم سوق الشوربجي في منطقة الشيخ عمر (1954 ) ودار عائلة كتخدا عام 1955 في ساحة الفردوس ومبنى وزارة الإعلام في الميدان ؛كما صمم قحطان عـوني الذي أكمل دراسته في الولايات المتحدة الأميركية مستشفى الفردوس في العلوية عام 1956 وكذلك قحطان المدفعي الذي صمم بيوتاً سكنية خاصة لشركة نفط الدورة وأخرى في المنصور إضافة إلى العديد من البيوت السكنية الأخرى التي اتسمت تكويناتها بالحركة والديناميكية والإثارة .
وعمل معماريون آخرون في تلك المرحلة ، مثل حازم التك وهشام منير وناصر الأسدي ومهدي الحسني وعدنان زكي أمين، وعادل صالح زكي، وغيرهم .
ثمة نقطة أخيرة أود أن أتطرق لها –وهي تكليف مجلس الإعمار وقتذاك خيرة المعماريين العالميين المشهورين ودعوتهم لتصميم مبان عديدة ذات وظائف مختلفة. إذ تم تكليف لو كوربوزيه في تصميم المدينة الرياضية في الكرخ (1956)، وفرنك للويد رايت F. L. Wright (1957)، لعمل تصاميم مبنى الأوبرا في جزيرة أم الخنازير وكذلك تصميم مبنى البريد والبرق في المركز المدني . كما كلف المعمار الهولندي وليم دو دوك W . Dudok بتصميم مباني وزارة العدلية، أما الفلندي ألفار آلتو Alvar Aalto فقد كلف بتصميم متحف الفنون الجميلة . وعهد إلى المعار الإيطالي جو بونتي Gio Ponti تصميم وزارة الإعمار ومجلس الإعمار (وزارة التخطيط في كرادة مريم). وطلب من فالتر غروبيوس إعداد تصاميم جامعة بغـداد في الزوّية ؛وقبلاً كلف كوبر عام 1953 بإعداد تصاميم البلاط الملكي ( القصر الجمهوري لاحقاً ) ومجلس الأمة (المجلس الوطني في ما بعد) . وكوبر هو نفسه مصمم الضريح الملكي وكلية الهندسة في الثلاثينات. في هذه الفترة، كان ثمة معمار آخر ذو شهرة عالمية، وهو خوسيه لويس سيرت X.L Sert يقوم بتصميم السفارة الأميركية في منطقة كرادة مريم ببغداد. وإلى جانب ذلك عهد إلى دوكسيادس – وهو معمار ومخطط من اليونان لإعداد التصميم الأساسي لمدينة بغداد وتصميم مشاريع الخطة الإسكانية في العراق .
وعلى الرغم من أن كثير من المشاريع المعدّة من قبل المعماريين العالميين لم تنفذ وقتئذٍ ، فإن مجرد وجودهم في البلاد قد أسهم في تكريس قيم عمارة الحداثة في بغداد وعزّز من حضور ومساهمات المعماريين العراقيين الحداثيين.
وأخـيراً ...
فإن السنين التأسيسية للعمارة الحديثة البغدادية لا يمكن أن تُغَطى بمحاضرة واحدة، كما لا يمكن استيعاب منجزها التصميمي وحصره فقط ضمن النماذج والأسماء التي وردت على عجل .
لقد انطوت تلك المرحلة على العديد من الأنشطة المهمة في حقلي العمارة والتخطيط، تلك الأنشطة التي اقترنت بالمفاهيم الجديدة والحديثة والطازجة .. فضلاً عن انطواء تلك الفترة على صفحات أخرى طويلة ومهمة؛ بيد أنها منسّية وغير معروفة؛ ساهمت في خلق وإبداع عمارة الحداثة في سنينها التأسيسية، بنكهة محلية، عابقة بروح المكان Genus Loci.
ومهما يكن من أمر؛ فإن تلك الفترة ستظل تمثل مرحلة غاية في الأهمية في مجمل مراحل تطّور عمارة الحداثة في بغداد والعراق ككل . ويكفي تلك الفترة امتيازاً وبهاءً وإشراقاً؛ أنها نظمّت وكونّت أساساً متيناً وعميقاً لمجمل التطورات المعمارية اللاحقـة في بغداد وفي عموم البلاد بشكل واضح!
ولعلّ الذين شرّفونـي بإصغائهم إليّ، يرتضون هـذه النتيجـة!