ثلاث أفكار أساسية أسست من بعد ثلاث مدارس في الحركة النسوية والأنثوية، هي: الأفكار الراديكالية العامة واللبرالية والماركسية وتحاول الكنيسة ان يكون لها خط بينها.. سأمر عليها بإيجاز، بعيداً عن التخندق، قريباً، ما أمكن، من العرض المحايد رغبةً في كشف الحا
ثلاث أفكار أساسية أسست من بعد ثلاث مدارس في الحركة النسوية والأنثوية، هي: الأفكار الراديكالية العامة واللبرالية والماركسية وتحاول الكنيسة ان يكون لها خط بينها.. سأمر عليها بإيجاز، بعيداً عن التخندق، قريباً، ما أمكن، من العرض المحايد رغبةً في كشف الحال والآراء التي أسهمت في تطور مضامين هذه الحركة. أقولها هنا قبل ان أتحدث عن بعض ظواهر الحياد بينها وهو ما أجد له أنموذجاً في شعر نجاة عبد الله ما دمت ابحث عن الحس الأنثوي والنزوع النسوي في كتابات الشاعرات العراقيات.
شخصياً، لا أميل للتفكير الذي يرى إن الذكر والأنثى قد خُلقا هكذا، الأول عدواني مهيمن والثاني مصادَر وضحية. أرى ان يعاد التذكير بان الاثنين يخضعان لموروث سيء ولثقافة سيئة ولنظام سياسي وقوانين سيئة. وهذه سيئة بحكم أنها نتاج للموروث والثقافة السيئين. وأن يكون واضحاً بان الحركة النسوية الثورية باتجاه المستقبل مطلب الاثنين، الرجل والمرأة، ومطلوبة منهما معاً.
مثل هذا النهج سيوّحد قوى التغيير وسيمثل الاثنين معاً، في جو التضامن، بدلاً من جعل المسألة بين جبهتين متضادتين. يمكن ان تعيد المُفكِرّات النسويات والقياديات منهن، القراءة الفلسفية في ضوء ما ينفع ويحقق نتائج أسرع وأكثر يمكنهن بالنظر الجمعي هذا، والذي يوحّد القوتين، أن يُحدِثْن انقلاباً ايستمولوجياً يغير الركائز القديمة في الثقافة الاجتماعية والتفكير.
مما نحذّر منه هو الحدّية الراديكالية غير المنضبطة، التي لا نظرية مُحْكمة وراءها، مما يقربها الى حافات الفوضى. معنى كلامي هو الاّ نفهم الحركة الأنثوية بوصفها مسعى ليوتوبيا مستقبلية. فنحن نريد للحراك النسوي ان يكون نضالاً سياسياً وهدفاً اجتماعياً، أي ان نجعله ذا منحى واقعي بعيداً عن الفردوس وعن اليوتوبيا.
جدوى المنحى الواقعي للحركة الأنثوية، انه يشرك الجبهة التي توصف بالضد. فالجانب التقدمي والعقلاني في تلك الجبهة، هو أصلاً مع التقدم والتغيير ومع الاتجاه الثوري لتغيير الأنظمة والقوانين.
اما الاعتراض بان هنالك فلسفات ثابتة عدوانيتها أو رفضها، فأقول، نعم. ولكن هذه ليست بدرجة من الرفض واحدة. كما انها ليست كل الجبهة الذكورية. تطور الحياة وتسارع زيادة الوعي والثقافة في عصرنا، يمنحاننا توقعات أفضل ويجعلاننا بإزاء انكسارات أو تحوّلات في الموقف المضاد، دينياً كان أو محافظاً عاماً.
فبالنسبة للدين، قد يتفرع، بل نحن نجد مؤشرات واضحة لذلك لدى العديد من التنويريين منهم، مما يجعل من الحركة بعضاً من محبة الإنسان وحماية أبناء الله. وهذا فعلاً ما تقول به بعض نسويات الكنيسة وبعض رجال الدين عندنا.
صحيح هو لا يرتقي الى الرفض الثوري الحاسم لكن الروح الثوري دائماً، وحتى في الأحزاب، درجات.
هذا الاتجاه بدأ يكتسي بصفات واضحة وصار له وجود يومي مؤثر. بعض أهل الفن والشعر ضمن هذا الاتجاه، ومنهم شاعرات ورسامات كاتبات وقياديات في منظمات اجتماعية. وضمن هذا استشهِدُ اليوم بظاهرة شعر "نجاة عبد الله" بين الشاعرات والأديبات العراقيات.
أيضاً، وفي مجرى النضال أو جهد المواجهة النسوي، لا يكفي الاعتماد على الخارج الايستمولوجي مُنْتِجاً، من غير استيعاب وتوظيف تراكم الخبرة ومهارات الإفادة من مفاصل المواجهات. صحيح إن المواجهات عموماً تنطلق من فكر مُسْبَق ولكنها نتاجات التماس العملي والنضالي أيضاً.
المعرفة تنتج وعياً بالذات وتُمكّن من فهم الحقوق ومدى التمكن من تحقيقها. هي إذن، وإن كانت متوارثة، لا تمنع مستجدات التجربة. ونحن حين نكون في مجتمع متحضّر لا يواجه التفكير النسوي الجديد صِداماً ضخماً مثل ذاك الذي يواجهه في مجتمع أقل ثقافةٍ جديدة. لذلك أقول: إن فهم تلك النتائج المِراسية والاحتمالات، وأخذها في الاعتبار، تجعل التحرّك الأنثوي الجديد، تحركاً ذا طبيعة ثورية واقعية وستكون السياسة التقدمية رديفاً للنسوية وسيلتقيان وهما قوة واحدة في فعل التغيير.
ولأن الايستمولوجيا تفتح طريقاً لحركة العقائد المختلفة، فهذا يعني إننا باتجاه اتفاق كلي، أو شبه كلي، على الأسس الإنسانية في الحركة النسوية. الاختلاف في المفردات والاتفاق على "الطبيعي" وعلى "الصواب" وعلى محو الإجحاف. فالصواب يستوجب حياة طبيعية سليمة، قبل أو خارج الهيمنات وعلى أساس إن البشر يقوَّمون لا بما يقولون ولا بما سيفعلون ولكن بما هم عليه الآن وبمدى لزوم حماية الحياة، وحماية الإنسان، من الاعتداء!
أظن إن السنوات الأخيرة شهدت تحوّلات في أفكار الراديكاليين. بدأت تضعف فكرة ان الرجال فاسدون حتى النخاع ولا أحد منهم بمنجى من الخطيئة أو بعيد عنها. طائفة منهم ترى ان الرجال هم أيضاً غير آمنين وانهم مخلوقات مُحْبَطة وان عليهم ان يخفّفوا من إحباطهم من خلال اضطهاد الآخرين. هذا رأي مرفوض لكنه يكسر التعميم والحدة الأولين.
الرأي الأول تتزعمه "الكنسون" Alkinson والكنسون هذه تصف اضطهاد الرجل للمرأة والاستمرار في الاضطهاد بأنه "ميتافيزيقا أكلة لحوم البشر.." فثمة طبيعة قاسية رسمت سلوكه. وهي ترسم سيناريو كابوسيّاً، يغزو فيه الرجل المرأة ويسيطر عليها وهو يخلق بهذا السلوك "طبقة جنسية" sex class.
وهكذا هي تفسر كل التاريخ البشري وضمنه كل مجتمعات عصرنا، اعتماداً على ظاهرة الطبقتين الجنسيتين، الذكرية والأنثوية.
من هنا عدم رضانا على هذا النوع من الراديكاليات ونذكرها دائماً بتحفظ، لان العلاقات الإنسانية لا تُصَنَّف بهذه الطريقة الآلية والثأرية. وإن كنا معها في الرأي بان كل المجتمعات المعروفة في الماضي وفي الحاضر، ليست إلا نموّاً مطلقاً لاستغلال القوة وان النظام الاجتماعي انعكاس واستجابة لتلك الطبيعة. فأية ظاهرة في الأدب أو في الفن، معتدلة، أو هادئة، إنما هي نتاج لنمو هكذا تفكير في الحركة النسوية العالمية. نعم هو ليس تأثيراً مباشراً، ولكنه رسم أخلاقية "ناعمة" نجدها في شعر بعض من الشاعرات وفي الرسم، كما وجدناها في الفكر الاجتماعي. إنني إذ أجدها في شعر دنيا ميخائيل-الهارب الى الشأن العام- وفي شعر نجاة عبد الله المتخفي في البراعات الفنية وجماليات التعبير، إنما أجد ظاهرة لها قاعدتها الفكرية في الأنثوية المعاصرة :
يدك تعلو
صنعت لذة الحياة
قبلتها، رممت شرودي
تطفح الأصابع بسم اللحظة
وبي جمرة من لا يمسك
أمنيته الأخيرة
نعاس الليلك ص120
وهذا الاحتجاج العبثي لنجاة :
ترسم ربيعاً من فئران
ولا يقضمك القش أيها الفرح
نعاس الليلك ص125
تحتج وكأن الأمر لا يعنيها!هي تتحدث بحيادية محزون مسالم. أنه استسلام للألم عجيب:
وحدها في الصباح
وحده في المساء
سار القطار من دون ان
يمرّ بتفاصيل اليوم
قيامة استفهام ص49
ما يساعد، وربما يفسّر، تقدم الحركة الأنثوية في عصرنا، هو إن الرجل بدأ يخسر مُمَكِنّاته من السيطرة. فعضلاته الآن تعوّض عنها الآلة، ولدينا الآن أنابيب وتلقيح "صناعي".. فما عادت له السلطة كاملة . "بنك الحيامن" يقابله "بنك البيوض" فضلا عن عمل المرأة واعتمادها اقتصادياً على نفسها. الرجل اليوم في حال تناقص قدرات الهيمنة. والتناقص يزداد ونحن في الطريق الى المستقبل. بدأت آلياته تدفع ثمن ما سببته من قبل والى ان يتخلى الرجل عن هيمنته، اختياراً بحكم الوعي والثقافة أو بالقوة بحكم تطور الحياة والتقدم العلمي وتنامي الروح الثوري النسوي: أقول حتى ذلك الوقت، وقت التخلي الذكوري عن "المستعمرات"، لا تبطل المعاناة ولا يعيش الناس عيشاً إنسانياً سليماً ومحترماً.
كان التمهيد طويلاً، لكنه ضروري لأجد تفسيراً لـ"حيادية نسبية" في بعض الكتابات النسوية المتقدمة صاحباتها ضمن شروط العيش الصعبة إنسانياً وربما مادياً. إن الانشغال عن المحنة النسوية بالشأن العام كما في كتابات ابتسام عبد الله وعالية طالب الروائية ودينا ميخائيل من مجمل أشعارها، وشاعرتنا نجاة عبد الله في الفن الشعري وجماليات التعبير واللعب اللفظي أحياناً، وهو انشغال آخر مقصود، لإيجاد واستحداث مهرب من طامة اجتماعية لا حدود لها.
نعم في حالة نجاة، قد نعزو الظاهرة الى أسباب أخرى مضافة منها طبيعتها السيكولوجية. فهي وادعة وتبدو مستسلمة للمحنة، يائسة من حل. ومن جانب آخر هو لتواجدها في جو الشعراء المحيطين والجو الشبابي الأدبي. فهي بدلاً من الثورية والتمرد تكتب برقة وحزن مهذب، وتبهجُ روحَها او تشغلها بما ترى او بما يعن لها من انتباهات إنسانية. هذه مع جمالية اللغة يشكلان، سمة ايجابية للعمل الفني وسلبية بالنسبة للحركة النسوية. لعل النسوية أكثر حضوراً في مجموعتها الأولى "حين عبث الطيف بالطين": (2008،
أهذا العمر لكِ
أيتها الأخطاء؟ ص7
أغرق في الحائط
وتغرق فيّ المسامير ص48