في معرض الكتاب الذي أحزنني افتقاده لمسات الحداثة والتنظيم، عثرت على كتاب قديم دفعته إلى النشر عام ٢٠٠١ ولم تعد لدي نسخة منه منذ سنوات، وها أنا أستعيده كذكرى وأقلب صفحاته الثلاثمئة، وأستذكر قراءاتي القديمة لأعمال مفكرين حاولوا تجديدا في فكر الأمة خلال القرن الماضي.
وقد استعرضت فيه نحو ٢٠ محاولة لتقديم تأويل مستحدث للتراث الديني والعقلي لا يقف عند مجرد التأريخ للأفكار، بل يسعى للمقارنة بين طرائق القدماء في وصف مشاكل عصرهم، وطرائقنا نحن جيل الأحفاد.
وأكثر ما يشدني اليوم أثناء تصفح بعض فصوله، أن "عويل" الأجداد مشابه لعويلنا، لكن فضيحتنا تبدو أكبر، بحكم العولمة وانكشاف معظم خصوصياتنا أمام بعضنا على مدار الساعة عبر دفق المعلومات الذي يأسرنا رغبنا بذلك أم اعترضنا عليه.
فقبل ١٠ قرون دوّن أبو المعالي الجويني وهو أستاذ الغزالي، صرخة متوجعة في كتاب "غياث الأمم في التياث الظلم" الذي حاول فيه فهم "علل الأحكام ومقاصدها" في باب السياسة والإمامة. ويقول واصفا حال زمانه وهو الذي تنقل بين نيسابور وبغداد ومكة "قد عمّ من الولاة جورها واشتطاطها، وزال تصوّن العلماء واحتياطها، وظهر ارتباكها في جراثيم الحطام واختباطها، وانسل عن لجام التقوى رؤوس الملة وأوساطها".
وتمرق الأعوام والقرون والعهود في روزنامات المعابد والممالك. لكن كل شيء يقول إن ساعة الاندحار متوقفة لا تتزحزح. فبعد نحو ٩٠٠ عام على تألم الجويني وفي نهاية القرن التاسع عشر، نقرأ لرجل دين ومثقف آخر ساخط هو جمال الدين الأفغاني في جريدة العروة الوثقى التي أصدرها من باريس حين هرب من العثمانيين والإيرانيين، فنجد في كلماته توجعا مستديما على بلاد الشرق، في عاصمة الغرب. يقول في وصف تلك الأيام "بلغ الإجحاف بالشرقيين غايته ووصل العدوان فيهم نهايته، وأدرك المتغلب منهم نكايته، ولم تبق طبقة من الطبقات إلا وقد مسها الضر من إفراط الطامعين في أطماعهم".
ومنذ لحظة جمال الدين ونحن ننتظر حلول الفرج. لكن اختلال النظام يهدر الفرصة تلو الأخرى. ويمكننا طيلة تلك العصور أن نجد في الشرق الأوسط فائضا من المواعظ الدينية إلى جوار نقص مهول في الأخلاق واللياقات والتكافل والتراحم. كما نجد فائضا من الشعر وعددا كبيرا من الأنبياء والأولياء والشرائع السماوية والأرضية، وملاحم ملهمة، ثم نكتشف أن كل هؤلاء فشلوا في إصلاح حالنا ولم يتركوا للجويني والأفغاني سوى التوجع بهذه البلاغة.
لكن فضيحتنا في الماضي كانت اقل شهرة. أما اليوم فإننا نستغل كل تقنية المعلومات لنزيد في إعلان سوئنا ونشر السيئ من تدبيرنا ونقص حكمتنا. هنا صراع على "الأموات" يقوم به الأحياء ليزيد عدد الموتى في النهاية. وهناك صراع على الأفكار القديمة يشغلنا عن التأمل في ملايين الأفكار الجديدة التي يبتكرها سوانا من سكان المعمورة. الناس تتلاعن بكلمات بدائية وكل يطلب الحرب. على من؟ على نفسه طبعا.
والطريف في تموجات التاريخ هذه الأيام أن الغرب نفسه يكاد يتضور جوعا، وكآبة الإفلاس تخيم على أوروبا. ويبدو "شرطينا" الأميركي نفسه محملا بأعباء تفوق التصور.
وإلى جوار ما اقتبسته في الكتاب المذكور من شكوى المسلمين، وجدت في كتابي القديم هذا أن الغرب ينوء بحمل أعباء هذه الكرة الأرضية. ومن مخاوفه نقلت مقتطفات كتبها الألماني هارولد شومان ورفيقه هانس بيتر مارتين، محررا مجلة دير شبيغل، وهم يسجلون هلعهم من ظروف وضرائب التحول الذي دخلت فيه البشرية مع العولمة.
وبين أجراس الخطر التي يدقانها، مقتبس من دراسة أجراها عمالقة التجارة الآسيويون عام ١٩٩٥ تؤكد أن سوق العمل العالمي لن يحتاج أكثر من ٣٠ في المئة من سكان العالم منتصف القرن الحادي والعشرين، وأن هذه النسبة التي تستطيع ملء بطونها من رواتبها، عليها أن تفكر بكيفية تهدئة جوع مليارات البشر العاطلين والمفلسين يومذاك، وهو يوم قريب جدا. ولا احد حتى هذه اللحظة يدري كيف للأقلية التي تملك المال، أن تهدئ إحباط الأكثرية الجائعة . إنه لعمري أصعب الأسئلة التي واجهت أولاد آدم على مر الأزمان.
لكن لدى الغرب حكماء يقللون من سوء النوازل، بينما يفر حكماؤنا تاركين البلاد لأقل أهلها حكمة، وأشدهم ولعا بالتلاعن والتشاتم والتقاتل. وقد لا نجد أمامنا في لحظات كثيرة سوى أن نعيد كتابة "غياث الأمم في التياث الظلم". ليظل الأفغاني صدى لأبي المعالي. كل قرن يستنسخ أوجاع قرن سبقه، كما يكرر حمقه وقسوته.
أوجاع من الشرق.. والغرب أيضاً
[post-views]
نشر في: 4 مايو, 2013: 08:01 م
جميع التعليقات 1
huseen rahman
]hzlh vhrd .lf]u td g hglدائما راقي ومبدع في كل المقالات التي تحتوي علي اروع ما يكتب من اختصاص الكتاب في اختيار العمود لان اخي سرمد وتاج رارسي النت تعلم جيدا بان تاعمود الذي ينشر من قبلك يجب ان يخضع لمبادء صحيحة وقونبن لانالعمودلا ياتي ان صحفي وكاتب وخصو