الرئيسية > أعمدة واراء > مأزق الرباعية الأخيرة

مأزق الرباعية الأخيرة

نشر في: 5 مايو, 2013: 09:01 م

قبل أسبوعين شاهدت فيلماً أمريكياً خرج إلى الجمهور العام الماضي، يعالج شأناً موسيقياً بعنوان "رباعية"، أخرجه الممثل الشهير ديستان هوفمان. الفيلم ذو مسحة كوميدية، ولكن الموسيقى الملهمة تفرض على مشاهده تعاملاً جدياً. ففي دار عجزة حافل بحب الموسيقى، يسعى أربعة، رجلان وامرأتان، إلى تشكيل رباعي غنائي من أجل أداء أغنية رباعية شهيرة في أوبرا "ريغوليتّو" للموسيقي الإيطالي فيردي، كي تُقدّم في مسابقة خاصة. والرباعية الغنائية "آرية" أو أغنية تشترك في أدائها أربعة أصوات بشرية متنوعة الطبقات. وهذه الرباعية بالذات كانت المفضلة عند فيردي نفسه. على أن مصطلح "رباعية" عادة ما يشير إلى الرباعية الوترية (التي تؤدى بالآلات الوترية: فايولين عدد 2، فيولا وتشلو.) وقبل أيام شاهدت فيلماً جديداً، من إنتاج العام الماضي أيضاً، يعالج شأناً موسيقياً باسم "الرباعية المتأخرة"، لمخرج أمريكي معروف في حقل الإخراج الوثائقي يُدعى "زايبرمان". والرباعية هذه المرة تشير إلى رباعية بيتهوفن الوترية الشهيرة مصنف 131، وخاصة إلى حركتها الأخيرة "الفيوغ"، الذي استقل لشهرته عن الرباعية ذاتها.
    الفيلم يقدم حكاية فرقة رباعية أمريكية طافت شهرتها العالم على امتداد 25 سنة، ومع الدقائق نقترب  من علاقات الشخوص الأربعة ببعض: عازف التشلو، وهو أكبرهم سناً، ويشرف على الفرقة بروح أبوية. سبق أن توفيت زوجته (مغنية أوبرا)، وها هو يكتشف ارتجافة في يده يجدها طبيبه الخاص أولى أعراض مرض بركنسون. عازف الفايولين الثاني، على شيء من الطيش، هو زوج عازفة الفيولا. لهما ابنة، وهي تلميذة فايولين، تحب عازف الفايولين الأول. وهذا الأخير عازف وصانع ماهر لآلة الفايولين، من مهاجري أوربا الشرقية. نقترب من العلاقة بينهم، القابلة على التوتر. ولعل قرار رئيس الفرقة وراعيها للاعتزال بسبب مرضه كان عاملاً مهدداً لانهيار وحدة الفرقة الرباعية، والقلق بشأن مستقبلها ومستقبل عازفيها كموسيقيين وكأفراد. كما كان عاملاً  لمسعى الجميع للتماسك أيضاً. هذا التعارض في الحدث يتداخل مع التعارضات اللحنية بالغة العمق التي تتوزعها الآلات الوترية الأربع. لأن الفيلم يبدأ بالفرقة على المسرح، وهي تشرع في العزف. ثم تنتقل اللقطة إلى راعي الفرقة، أستاذ آلة التشلو، وهو يحاضر على طلبته عن الزمان في الموسيقى والحياة، مستشهداً بمُفتتح قصيدة ت. س أليوت "الرباعيات الأربع" يتناول فيها الزمن في تواصله، استدارته وأبديته:
"الزمان الحاضر والزمان الماضي
حاضر كلاهما، ربما، في الزمن المقبل،
والزمان المقبل يحتويه الزمان الماضي.
إن كان الزمان حاضراً أبداً
كان الزمان كله مستحيلَ الافتداء.
    هناك لقطات ومشاهد عديدة تُضيء جوانب العمق في مشاغل العازفين، لتتوافق مع مشاغل رباعية بيتهوفن ذاتها. وهناك لقطات ومشاهد تلقي الضوء على مشاغل حياتهم المسطحة، العابرة. هذه التعارضات تشعرها في طبيعة المكان المنتخب بعناية أيضاً: بين البيت الدافئ، والخشب الرصين والإضاءة الهادئة، موحدة تحت ظل أنغام الرباعية، وبين الخارج صارخ البياض والبرودة بفعل الثلوج، التي تغطي الشوارع والحدائق.
    فن الرباعية الوترية يتربع على قمة موسيقية خُصّت به، منذ ابتكره النمساوي "هايدن". ولكن الحوار بين الآلات الوترية الأربع، والذي كان في عهده وعهد موتسارت بعده يميل إلى توازن الشكل الفني الصافي، أصبح على يد بيتهوفن حواراً مفكراً. ثم أصبح في الرباعيات الخمس الأخيرة، وفي هذه الرباعية بالذات حوار عواطف فردية، مكثّفة، بالغة الالتباس والعمق ونزعة التأمل. لأن بيتهوفن في مرحلة صممه المطلق الأخيرة عاش حياة عزلة انقطع إلى نفسه فيها، وكان يؤلف على هوى هذه النفس، دون تكليف من الخارج.
    فن الرباعية هذا يصلح للنفس المتأملة، الملتبسة والعميقة. ومع بيتهوفن خطى باتجاه بعدٍ مجهول لا يميل إليه كل محبي الموسيقى. وهذا الشيء يصح على فيلم "الرباعية المتأخرة" الذي أتحدث عنه. لأن مشاهده يجب أن يتحلى بحب الموسيقى، ويميل إلى مرحلة بيتهوفن هذه، ويرغب بتأمل نشاطات الكائن في غمرة الحياة العملية، وتقاطعاتها مع مشاغله الروحية والعقلية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

تقارب طهران وواشنطن بوابة لحل أزمات العراق الاقتصادية

النساء يتحدن ضد تعديل الأحوال الشخصية والقضاء يتفاعل والمحكمة تحسم في أيار

عطلة رسمية للمسيحيين في 20 و21 نيسان

الأونروا: مخازننا فارغة والمجاعة تفتك بسكان غزة

كردستان تعطل الدوام غداً احتفالاً برأس السنة الإيزيدية

ملحق معرض اربيل للكتاب

الأكثر قراءة

قناطر: العالم يتوحش .. المخالبُ في لحمنا

العمود الثامن: قوات سحل الشعب

"الحشد الشعبي"... شرعنة التشكيل بوظائف جديدة

كلاكيت: "ندم" وعودة الفيلم الجماهيري

الحاكم بمنظور إمام سلطة الحق

العمود الثامن: المتشائل

 علي حسين أعترف أنّ الكتابة اليومية تتطلب من صاحبها جهداً كبيراً، فصاحب النافذة اليومية مطلوب منه أن يُقدِّم شيئاً يتجاوز ما اطلعت عليه الناس في الأخبار، وشاهدته من خلال الفضائيات، فالعبور إلى جسر...
علي حسين

(50) عاماً على الحرب الأهلية اللبنانية حياةً بين قذيفتين

زهير الجزائري 2 بين القتال والهدنةً القصيرة تغيرت الحياة الاجتماعية. لقد قضى الناس أياماً طوالًا في الملاجئ. نساء ورجال حشروا في مكان ضيق. شبان لم يعرفوا السياسة و ما أرادوا أن يعرفوها انفصلوا عن...
زهير الجزائري

اشكالية السياسة والتعصب تحليل سيكولوجي

د. قاسم حسين صالح المفهوم الشائع عند العراقيين بمن فيهم الكثير من المثقفين ، ان المتدينين يكونون متعصبين والمثقفين متحررين وغير متعصبين ، فهل هذا صحيح ام فيه رأي آخر ؟ لنبدأ بتحديد المفهوم...
د.قاسم حسين صالح

باليت المدى: كرسي مكسور الساق

 ستار كاووش عندَ لقائي ببعض الناس أفاجئ ببعض التفاصيل الصغيرة التي تُشير الى نوع من الكسل واللامبالاة وعدم إيجاد الحلول حتى وأن كانت صغيرة. فرغم إنغماس أحدهم بتعديلِ صُوَرِهِ ببرامج الفوتو شوب كي...
ستار كاووش
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram