صباحاً تملكني نفور من العراق هذا. ثم زال النفور وشعرت بأني سعيد بعراقيتي. بعدها عاد النفور يتملكني ثانية. ما حكاية بلاد التناقضات هذه؟
بدأ الأمر حين استدرجني صديق إلى يوتيوب لملاحظة كيف تصرف جيشنا في الحويجة التي أسماها الصدر بالحويجة الجريحة. وكان اليوتيوب مليئا بمشاهد مخزية، والأكثر منها خزيا رد السيدين الشهرستاني والمطلك على تساؤلات السيدة سارة ويتسون التي قابلتهما وخرجت من مكاتب حكومتنا غاضبة لتكتب واحدا من أهم تقاريرها المنشور قبل يومين في كل وسائل الإعلام. لكن شعوري بالخزي تعاظم حين أخذني اليوتيوب إلى حفلة الموت الشهيرة التي نظمها "عباقرة" حزب البعث في قاعة الخلد عام ١٩٧٩. صدام يقرأ أسماء بعثيين ويرسلهم إلى الإعدام. لم تكن مجرد تصفية بشعة للتعدد السياسي والفكري داخل الحزب، بل شعرت بأن الفريق السياسي والعسكري لصدام حسين، رسم كل مخططات الكراهية تلك اللحظة، وكانت قاعة الخلد ساعتها مخزنا كبيرا لكل الأيام السوداء التي ستليها. صعب أن يجتمع الشر في مكان واحد بهذه الطاقة التدميرية. وخزي كبير يتملكني لأن مجموعة جهلة مليئين بالنزوة والعداء، راحوا يديرون سياسات بلادنا وظروفها المعقدة. ذلك التخلف أخذنا إلى أحط المصائر وها نحن بعد ٣٥ عاما ندفع ضرائب السياسات المتخلفة. روح تخلف وخزي مشابهة هي التي أوقعتنا في خزي الحويجة.
نعم كرهت جزءا من "عراقيتي" في يوتيوب، لكن رابط انترنت آخر أخذني إلى مقال لعادل عبد المهدي جعلني أشعر بأن بلادنا المعقدة والمتنوعة، تمتلك فرصة تقدم رغم كل الشعور السيئ. المهم فقط كيف نبرع في انتقاء أوراقنا الرابحة لتقديم الأفكار الصحيحة والتخلص من منظومة الفكر الوحشي.
أنقل هنا جزءا من مقال عبد المهدي لنرى مقارنة بين السياسة كغريزة عتيقة وخزي مكرر، والسياسة كعلم تطور ونظم إدارة تتقدم لتجعل في وسعنا أن ندير الخلاف بقواعد ذات كلفة اقل، بدل أن نشرب دماء بعضنا بطريقة القرون الوسطى.
يكتب عبد المهدي: "الكثير منا ما زال يمارس السياسة معتقداً أنها نفس قوانين ودروس "ميكافيلي" في كتاب "الأمير". أو "هتلر" في "كفاحي". أو "عفلق" في "انقلابيتنا".
الكثير منا ما زال يعالج موضوعات السياسة كما يعالج مشعوذو القرون الوسطى المرضى، بالضرب والبخور والطلسم وأعمال الهلوسة لطرد العفاريت والأمراض من أجسادهم.
السياسة كبقية العلوم تطورت نوعاً وأسلوبا. فتراجع نوع العقد بين الحاكم والناس. وانقلبت الآية من حكام يختارون رعيتهم، إلى مواطنين يختارون حكامهم.
تراجع توارث الحكم لمصلحة تداوله. وتراجع دور الفرد الذي كان يملي أوامره وتهديداته، لمصلحة مؤسسات لها أنظمتها، يخضع فيها الجميع رؤساء ومرؤسين، لسياقات وضوابط معلومة.
تراجع دور المسؤول الذي يحاسِب ولا يحاسَب، يَتَهِم ويُدين، لمصلحة مسؤول يلاحق ويخضع للمحاسبة والشفافية من البرلمان ومؤسسات الرقابة ومن الرأي العام وهيئاته ومؤسساته الفاعلة. السياسة اليوم علم كبير ووسائل وأساليب، تطورت مع تطور النظم الإدارية والمعلوماتية والديمقراطية، والمفاهيم الدستورية والحقوقية والمدنية الفردية والعامة والتي باتت لها ممارسات ونماذج وأبعاد عالمية كبقية العلوم وتطبيقاتها".
وقد اقتبست هذه الفقرة الطويلة لأنها تتيح لنا أن نفرز في عدة مبادئ بين أسلوب العالم المتقدم في إدارة الصراع على السلطة، بمنطق علم الإدارة الحديث. وهو علم قادر على تهذيب الغرائز التسلطية وفض الاشتباكات وتخفيف حماقاتنا. وبين إدارة الخلاف بمنطق ضرب المريض واللجوء للبخور والهلوسة لطرد العفاريت. وهو أمر تلمسه في قاعة الخلد (الخزي) وساحة اعتصام الحويجة.
إن مقال نائب الرئيس السابق جعلني أستعيد الأمل بوجود مجموعة عقول نظيفة تمثل نواة تصحيح قائم فعلا لمسارنا الوعر والمكلف والدموي. انه أمر يشجعني على مزيد من الرهان وطرد اليأس. لكن حوارا قصيرا مع طبيب مليء بالنبل والعلم، يجعل مشاعر النفور تتملكني ثانية.
الرجل من بقايا الخير في هذه البلاد. المرضى مزدحمون على بابه ويتطلب دخولك إليه شهرا من الانتظار. لكنه يضع استثناءات إنسانية للطوارئ ويكتب على بابه بخط الرقعة "نعالج الفقراء مجانا". وهو أيضا بمثابة معالج نفسي لأمثالي يثبت لليائسين أن الصنف المتحضر وذوي اللياقات لا ينقرضون في بلدنا المنكوب.
وجدته يقول إن القصص السعيدة في العراق تنتهي بكوميديا سوداء. نجح في استضافة بروفسور أوروبي لإلقاء محاضرات في حقل حساس وهي أول مرة تحصل لدينا منذ ربع قرن. يقول إن الأمور سارت في جامعة بغداد بشكل ممتاز، حتى سأله البروفيسور الأوروبي: أين دورة المياه من فضلك؟ السؤال نزل كالصاعقة على صاحبنا العراقي، لأنه يعلم بحال دورات المياه في جامعة بغداد وحجم "الخزي" فيها. لم يكن أمامه سوى أن يدل الضيف الغربي على التواليت العراقي، ويسرع هاربا لأنه عجز عن رؤية الاستياء في وجه الطبيب الانجليزي، الذي قاده سوء حظنا، إلى دورة مياه أرقى أطباء البلاد!
مساحة الخزي هنا لا يطفئها كل بخور السياسة وقواعد العلم.
بخور وعلم و"خزي" لدورات المياه
[post-views]
نشر في: 6 مايو, 2013: 08:01 م
جميع التعليقات 7
أحمد هاشم الحسيني
على ذكر اليوتيوب حبذا لو حاولت الإطلاع على تسجيل مراسم القسم امام مقتدى الصدر وخطابه التاريخي الهام لترى أن الشخص الذي ثبرتنا به كرمز لثورة الإصلاح ضد عدوك المالكي هو مجرد مستبد آخر يضع نفسه فوق الجميع ويتوعد بطريقة صدام أيام زمان أطره أربع وصل وم
ابن العراق
فاقد الشئ لا يعطيه فسياسيونا لا يستيطعون التفكير بالطريقة الحضارية التي اشرت اليها لانهم من صغرهم مشبعين بأفكار القرون الوسطى وبالعصبية المذهبية التي تعامل الانسان بطريقة انت ليس معي اذا انت ضدي
كاطع جواد
حكاية البروفوسور الانكليزي وصاحبه العراقي الذي هرب من الموقف الصعب الذي أوقعه حظه العاثر به عندما أراد ذلك الضيف قضاء حاجته، تذكرني باحد المشرفين( المتنورين) والذي كان عند زيارته للمدرسة يقوم قبل كل شيء بزيارة دورات المياه للتلاميذ ، وعندما سالته : استاذ
خالد الوائلي
اخ احمد الحسيني لماذا تنتقد بساطة التعبير وعظمة الموقف .. الم تقرأ لا تنظر الى من قال او كيف قال بل انظر الى ما قال ؟ لماذا الفضيلة عند البعض رذيلة ؟ هل تكلم خطأ السيد الصدر ؟ كان يحث على الامانة والصدق مع الناخب والنزول الى الشارع وملامسة جراح المواطنين
أحمد هاشم الحسيني
عزيزي خالد لا أظن أن الجريدة مكانا للأخذ والرد بين القراء وإنما هي للتعليق على ما يطرحه كتابها وإن كان قد إستفزك رأيي فلا بأس إن كانت الجريدة الغراء تسمح لي بالتعليق والأمر لا يتعلق ببساطة التعبير لأن البساطة هنا تعكس ضربا من عدم الأهلية فكلنا نعلم أن زعا
خالد الوائلي
تحيتي الى سيد أحمد الحسيني ونحن مجتمع جبلنا بفطرتنا السليمة وفطرة أهلينا على حب سادتنا من ذرية الحسين عليه السلام فتحية لك سيدنا ولا اضنك جاد بان تسمي صور السادة من ال الصدر بالزبالة لان ال الصدر اعرق واشرف واطهر عائلة علمية خدمت الاسلام وخدمت العراق بدمه
خالد الوائلي
نشكر جريدة المدى على حرية التعبير الحقيقية !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!! لماذا لم تنشروا ردي على السيد احمد هاشم الحسيني ان انه اسلوب منكم لترك الشبهات في ذهن القارى دون ان يجيب احد عليها !!! هذا ظلم يتناقض مع ما تدعوه من محاربة الظلم !!