TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > متى تفرغون من "إنقاذ العالم"؟

متى تفرغون من "إنقاذ العالم"؟

نشر في: 8 مايو, 2013: 08:01 م

يأسرني اليوم بألم، مشهد كتابات الكراهية على حائط فيسبوك، وعلى جسد الخصم، اي وشم الكراهية على حائطين. ومشهد سقوط الدولة التي توكل مهماتها الى مجموعات شباب مسلح عقائدي فقير ويائس، يندفع "لحل مشاكل العالم". ومشهد ثالث لإصرار الدكتور حسين الشهرستاني، على ان دولتنا تحرز تقدما في مكافحة الفساد، بينما نعيش هذه الايام واحدة من انتن فضائحنا.
شاب متحمس يكتب على جدار الفيسبوك شتائمه وغرائزه وكراهيته. يستعين بصور حقيقية وأخرى مفبركة ليزيد من مستوى الكراهية المتبادلة. وعلى مبعدة منه شاب في سوريا يكتب ولكن بالسيف، نفس تلك الكراهية على اجساد خصومه. والصور تتناسل خارج حدود الشام لتشمل كل مجتمعات اليأس العربي والإسلامي.
ان الكراهية كوقود لنار الحرب والقتل، تبدأ ملفوظة على الشفاه في المعبد. الكاهن يستخدم الكلمات لاعلان الحرب ومحكمته تصدر احكام اعدام ابدية على من يشاء. والكلمة الشفوية تتحول الى نقش او وشم او عبارة. شباب متحمسون غارقون في عبادة الجماعة او الطائفة ينقشون تلك العبارة على حائط موقع التواصل الاجتماعي ليعلنوا حربهم. وفي عالم الحقيقة يوجد شباب متحمسون ايضاً يستخدمون السيف في الكتابة. ينقشون صور الكراهية نفسها، على جسد الخصم.
انه نقش واحد ينتقل من شفاه الكاهن الى حائط فيسبوك ثم يظهر على جسد الضحية في العالم الحقيقي، كما لدى قاتل متسلسل في افلام هوليود يحرص على ترك رمز او توقيع على جسد ضحاياه.
ان الكهنة والشباب يخوضون حربهم بحماس "لحل مشاكل الكون" بعد ان فشلت الدولة في منطقتنا. وليت شعري، فلا الدولة تطورت ولا الكهنة المتشددون، ولا الشباب. ان لدينا من الطرائق البدائية والغريزية في التفكير، ما يكفي لإحراق العالم كله.
ونشهد في مستويات عدة داخل الشرق الأوسط، صورة سقوط الدولة التي تعجز عن الفعل بوصفها دولة، فتلجأ الى الدفع بشباب عقائدي مفخخ لحل مآزق الكون. دبلوماسيتها عاجزة، وجيوشها الرسمية عزيزة مذخورة في الثكنات، والامر موكول الى شباب متحمس مدجج بالسلاح، ورطناه بأكثر المهام قسوة، كي تتلوث يديه هو بلزوجة الدم البشري، وتبقى أيدي الحكام بيضاء تتزين بالفضة والذهب في اجتماعات عاجزة وحوارات بلهاء.
بدل ان تتخلص الدولة في منطقتنا من الفقر والتخلف وتلكؤ التنمية، فإنها تستخدمه. تعجز عن القيام بواجباتها كدولة وتدفع بعصابات لتمشية الأمور، مستغلة فقر الشباب تارة، ونقص خبراتهم الثقافية تارة اخرى. والاخطر استغلال يأس سياسي رهيب يتملك شعوبا عاجزة. انه كذلك يأس أبدعه وطوره تخبط الكبار الذي استغرق قرونا.
ان اليأس من اصلاح العالم يستفحل ويتحول كما يبدو الى فعل إحراق العالم. وهذا ما يقوم به آلاف اليائسين الكبار والصغار اليوم.
وقرب نقطة التفتيش توقف سير مركباتنا لسبب "حكيم" ولا شك أدركه الضابط وليس من الضروري ان ندركه نحن. انه يحجزنا في نقطته ونحن جالسون في السيارة نتأمل "أثاث نقطة التفتيش". هذا جهاز اتصال معلق بفخر بصدرية الضابط. ترى ماذا يقول ضجيج اللاسلكي وأجهزة الاتصال في السيطرات؟ وتخيلوا كمية ما يقال من كلمات عبر كل اللاسلكيات المعلقة على صدور الجند في شرق العراق وغربه. بماذا يثرثر المحاربون في لاسلكياتهم؟ الى اين يسرعون بعرباتهم العسكرية العملاقة، ومن هي الطريدة؟
الجندي يمسك بحرص أيضاً جهاز كشف المتفجرات ليفحص اجسادنا، ويسمع معي من مذياع السيارة حيث طال وقوفنا، المذيع وهو يردد ان اعرق محاكم بريطانيا تحكم بأنه سونار مزيف وتسجن تاجره عشر سنوات. انا والسائق والجندي حامل الجهاز، نستمع ونبتسم بألم ولا نقول شيئا. كلنا أسرى لإرادة "حكيمة" تطلب منا ان نقف في السيطرة ونبتسم لمذيع الراديو ولا نعلق، او نتحول الى أعداء للديمقراطية.
الخبر الثاني في راديو السيارة المحجوزة داخل السيطرة، ينقل صوت الدكتور الشهرستاني: "حققنا تقدما كبيرا في مكافحة الفساد، والبرلمان هو الذي يسمح للمفسدين بمغادرة البلاد". الشهرستاني يسمع خبر فساد صفقة السونار أيضاً، وينظر الى صورة كل العراقيين الميتين بالمفخخات او الواقفين في السيطرات كي يمرر الشرطة عليهم السونار المزيف. الشهرستاني يحدق في ميتتنا ووقفتنا البلهاء العاجزة ويبتسم. الكاهن الذي يعلن الحرب يرى صور احراق العالم ويبتسم. الشاب على فيسبوك ينقش كراهيته على الحائط ويبتسم. كذلك حامل السيف يتحول الى قاتل متسلسل يوقع بوشم جسد الضحية ويبتسم. وأنا والسائق والشرطي حامل الجهاز وأنتم، سنظل نسمع النشرة واخبار الكاهن وحامل السيف وصانع الكراهية، وتصريحات الشهرستاني، حتى يفرغون من وشم اجسادنا في مهمة "إنقاذ العالم". ولم لا؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 4

  1. ماهر النمر

    العراق واحد

  2. اسامة الحبيب

    تحية طيبة .. انا ابتسم وفي نفسي قليل من الارتياح وذلك لوجود شخص مثلك يفهم الواقع و وينتقد السوء فيه وما اكثره من سوء , وجودكم هو منبه لكن غير مزعج ,عسى ان نصحوا جميعا في لحضة مناسبة , شكرا لهذا المقال وانا جدا معجب بكتاباتك وأراءك

  3. حيدر

    كاتب مبدع وجميل احسنت وكم شعرت بالحزن وانا اقرا المقال والله انه لحزن كبير يجتاح قلبي اذكر عام 2003 عند سقوط الصنم كنت صغيرا بالعمر ولكني في تلك اللحضات تملكني حلم جميل ونظرت الى المستقبل والله نظرات مليئة بالتفائل وتخيلت نفسي مع هذا الشعب المسكين نعبش عي

  4. د.ماهر الحمداني

    رائع يااستاذ سرمد فالعراقيون ابتلوا بملتان اولها مولانا وثانيها شيخنا ولاخير ببلد يتكئ على اهل المعبد واهل الدواوين لانه فاقد السلطة والقانون وعليه هو فاقد الشرعية لان يكون دولة لها سويدة فكبير جدا عليها السيادة.طوبى والف طوبى لكم ياسيد سرمد فانك تعرف كيف

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram