TOP

جريدة المدى > تشكيل وعمارة > لا شيء.. لا أحد.. يورانيوم منضب !(*)

لا شيء.. لا أحد.. يورانيوم منضب !(*)

نشر في: 10 مايو, 2013: 09:01 م

 أن تبحث وتعمل على إخراج أعمال فنية تتمثل فيها أبعاد الفاجعة الأقسى من بين كل الفواجع التي مرت على العراق عبر حاضر تاريخه وماضيه، فهذا أمر اعتقد بأنه يحفز الفنان على ان يستنفر  كامل أدواته وقدراته الفنية من اجل تثبيت أو محاورة وقائعه، سواء

 أن تبحث وتعمل على إخراج أعمال فنية تتمثل فيها أبعاد الفاجعة الأقسى من بين كل الفواجع التي مرت على العراق عبر حاضر تاريخه وماضيه، فهذا أمر اعتقد بأنه يحفز الفنان على ان يستنفر  كامل أدواته وقدراته الفنية من اجل تثبيت أو محاورة وقائعه، سواء منها الوثائقية أو الافتراضية التي تحاور أو تحاذي منطقة الحدث وتشتغل أيضا على تفكيك عناصره الكارثية التي يراد لها أن تختفي خلف كم رماد الزيف الإعلامي العالمي منه وحتى  الرسمي المحلي.
أن تغمض عينيك، هذا لا يعني إلغاء كم الحقائق التي توضح مدى ما نتعرض له من الخطورة التي ليس بإمكاننا ان نتغافل عن نتائجها. هي عناصر صلدة مندسة تحت جلودنا وكامنة في الكثير من خلايانا الأكثر حساسية، ولا خلاص لنا سوى الفناء. وان عرفنا بان العمر الافتراضي لليورانيوم هو ضعف العمر الافتراضي لعمر الأرض. فهل بات علينا ان نبحث عن ارض أخرى ليبقى نسلنا سالما. وان كنا مشككين في الأمر، فعلينا فحص كل التقارير التي تناولت ما استجد من ظواهر التشوهات الخلقية(الجينية) لمواليد ما بعد حرب عاصفة الصحراء(1991) وما تبعها من إمراض خبيثة، وفي الذروة منها(2003)،لنكتشف حجم المأساة. فهل نحن كعراقيين مشروع معلن لفناء جنسنا.
لم يكن عرض الفنان علي النجار الأخير(لا شيء .. لا احد .. يورانيوم منضب) إلا استقصاء لحجم هذه الكارثة. لكن وبما انه خطاب فني، فقد حاول الفنان في أعماله هذه مخاطبة الحواس قبل العقل، وان لم يقصيه، هو يسعى لأن يلفت نظرنا و يوقظ فينا حاسة الإدراك، من اجل البحث عن أسباب هذه الكارثة وإدانتها ومحاسبة مرتكبيها، وفي اقل احتمال المطالبة بمسؤوليتهم الخلقية والإنسانية لإيجاد حلول لها قبل أن تستفحل.
المعرض الذي أقيم على قاعات المركز الثقافي العراقي في ستوكهولم وافتتح في السادس عشر من آذار هذا العام، تنوعت اشتغالاته بتنوع مواده وتقنياته التي تراوحت ما بين العمل المسندي التلويني والأعمال الورقية التي نفذت بتقنيات المواد المختلفة، مع عمل تنصيبي وآخر فيدويي. ومن كل ما شاهدناه من تنوع إخراج الأعمال المعروضة التي لم تستوعبها قاعتا العرض بكاملها. إلا انها لم تفقد وحدتها العضوية التي كرست موضوعة العرض مجالا يستوعب كل اداءاتها المتعددة. لقد حاول الفنان جهده لأن يخصص لكل عنوان مجاله الخاص والمختلف عن الآخر وبما يوفر لكل من(عناوين هذه الوحدات الفضاء المناسب لمجال الرؤية المثالية.
في افتتاح العرض نوه الفنان عن طبيعة عرضه بكلمة مختصرة نقتطف منها ما يلي:
( ما أود أن قوله عن عرضي هذا، بأنه عرض يتعدى الفعل الوثائقي الى الفعل الفني المتشعب المصادر والوسائل التعبيرية. صحيح إن العمل الوثائقي يكثف المشهد أو يقدمه كما هو. لكنني وعبر كل نتاجي الفني لا أقدم وثائق بقدر ما أحاول أن أحاور الذات والآخر الإنساني والبيئي، بإرثه أحيانا, وأحيانا بحاضره.
بعض أعمال هذا العرض انبنت على مظهرية وميض وإشعاعات انفجارات القنابل والصواريخ التي ضربت عموم بغداد ونورت سماءها في منتصف الليلة الأولى من زمن حرب الخليج الثانية(عاصفة الصحراء) والتي شاهدتها أيضا في الأيام التالية. وأعمال أخرى اشتغلتها على بعض الصور الوثائقية لأطفال اليورانيوم. ليست تلك الصور الأكثر بشاعة. فانا أخاف عليكم من ارق صدمتها. أنا بطبعي اكره البشاعة. هذا العرض بشكل عام يحاور افتراض أجواء الحدث بفيزيائية ملونة ،خراب البيئة وانصهار مخلوقاتها وعناصرها، وأنا مجرد شاهد على هذا الحدث، لكنني لست شاهدا محايدا، بما أنني أيضا تعرضت لمخاطره.)
في أعماله التي عنوانها(رياح اليورانيوم) ثمة إشعاعات واطلاقات مشعة تنحدر من الأعلى، حيث السماء مثلومة بلون النار والرصاص وحيث تختلط الأجساد والكائنات والفضاءات المعتمة. والعتمة عند الفنان في هذه الأعمال مرادفة لليالي القصف، فهو لا ينسى الصدمة الأولى التي خطط لها الحلفاء بان تبدأ بعد منتصف الليلة الأولى بقليل. لقد نجحوا في تحقيق هدفهم المعلن لإرجاعنا لعصر ما قبل التاريخ، ولا نزال نعاني من ذلك ولحد وقتنا الحاضر. لكن إن استطعنا إعادة بنية الدولة لسابق عهدها(وهي أساسا بنية مشكوك في فاعليتها) فكيف لنا أن نعيد بنية المنظومة الخلقية الحضرية والجسدية لإنساننا بعد كل هذا الخراب.
في عنوانه الثاني(الخراب الجيني) أعاد الفنان الاشتغال على أربع صور أرشيفية لأطفال اليورانيوم، والتي عرضها كوحدة تشكيلية متراصة في عمق وسط قاعة العرض، فيما يشبه الديكور المسرحي شخوصه الطفولية التي شوهتها ذرات اليورانيوم ورصاصه، حفرت أخاديد عميقة على قسماتهم التي أزيح بعضها من موقعه الطبيعي، نتيجة لما استقر في رحم الأمهات من الملوثات الذرية. حاول الفنان أن يضفي على كل عمل من هذه الأعمال مسحة معينة مستقاة من أجواء فضاء الحدث وملونته الفيزيائية التي اخترقت مساحة مسامات هذه الوجوه التي كانت منذورة لبراءة سنوات عمرها القادمة.
اختلفت تقنية أعماله(الشاهد) عن سابقتها، حيث ثبت الفنان وسط رسوماته صورته الشخصية التي نفذها بتقشف كرافيتي وسط فوضى حطام أو خراب بيئي افتراضي، بأسلوب تعبيري تتداخل فضاءاته وصوره الشخصية بنسيج يقارب الاشتغالات الكرافيكية التقليدية
وبتقشف لوني(أسود.. ابيض) ليقارب فيها كم السخام أو المطر الأسود الذي اصطبغت به بيوتنا وأبنيتنا العامة في تلك الحروب العبثية. وبان في التفاتات وجهه القليلة والمحسوبة،عمق القلق والحيرة والتشظي الذي يعمر النفس وسط كم الخراب الأرضي. وان كانت لشهادته الشخصية من معنى، فهي شهادة أراد لها أن تبرز من عمق الحدث.
في عمله التنصيبي(اطلاقات) أرجل ووجوه مرسومة على سطوح اسطوانات مموهة بألوان معتمة ومشعة مضيئة، تنزل من سقف القاعة اطلاقات ملوثة تتبعثر وتصطف وسط الفضاء فوهات تذكرنا بالات إطلاق الصواريخ التي عمرت بها حدودنا وفضاءاتنا في الحروب المتكررة. ولم يكتف الفنان بذلك بل وضع حدودا تحذيرية(الشريط التحذيري) على سطح أرضيتها المقابلة كمنطقة حرام لا يمكن الدخول إليها.
في جهة العرض المقابلة لأطفال اليورانيوم،عرض الفنان تشكيلة رسوم ورقية لرؤوس
بشرية تخترقها اطلاقات اليورانيوم المنضب، مع دمغة السلاح. تذكارات لا تنسى. وفي احد الأركان نصب عمله الفيديوي الذي هو جزء متتم لفكرة المشروع، شخوص تظهر وتغوص تتفحم وتزدهر وتندثر وسط طبقات الأرض. شخوص من ذرات قابلة للتفتت، كما هو السلاح ذرات تخترق مناطق الجسد الحيوية وتفنيه. وليست كما الادعاء الأجوف بانها( لا شيء.. لا احد!).
القاعة الثانية احتوت على تشكيلات تجميعية ورقية، حاورت وبمناطق تعبيرية ودلالية متعددة، بدءا من خراب البيئة وتفحم بعض مناطقها، وحتى انصهار الأجساد أو حميمية العلاقات الإنسانية التي تعرضت لضخامة انتهاكات الحدث وجبروتها. كما رافق العرض نص مدون يبين حجم كمية الذخائر التي أسقطت على العراق ما بين(1991 ـ 2003) ومدى الأضرار البيئية التي تعرض لها العراق والتي فاقت كل الأضرار الأخرى التي تعرضت لها الدول الأخرى التي ضربت بهذه الأسلحة. وأنواع الأمراض المستعصية ونسبتها المخيفة، مقارنة بالأعوام السابقة لهذه الحروب.
ملاحظة أخيرة: كان بودنا ان يحظي العرض بتغطية إعلامية توازي الجهد المبذول لإخراجه. فلا فضائيات ولا مراسلو صحف حضروا، ولا حضور سويدي أو أجنبي. فالعرض وكوثيقة موجهة للآخر الأجنبي، ليطلع، أو ليتعاطف، أو ليتحمل المسؤولية الخلقية والجنائية على فعلته، أو ليشعر بها. لقد كان يأمل الفنان أن تتعدى رسالته الوسط الثقافي العراقي وتصل الآخر, كون القضية تحمل أبعادا إنسانية، ولها مسبباتها التي انبنت على كم من الخداع والزيف. والادعاء بان سلاح اليورانيوم المنضب لا يضر بالإنسان أو بالبيئة، هو ادعاء لم يثبت أمام كم الوقائع المأساوية التي ربما تتعدى حتى المنطقة الجغرافية التي طالها هذا السلاح، ما دامت جزيئاته تحملها الرياح للجهات الأربع. كما يأمل الفنان ان تتبنى مشروعه مؤسسة متمكنة لها القدرة على تسويقه وإيصاله الى أكثر من بلد ومكان، لتبيان مدى ما أصابنا من دمار. ولا يعقل ان لا نستغل الإعلام وهو مساحة عالمية مفتوحة، و كما يسخره غيرنا لقضايا إذا قورنت بقضيتنا هذه سوف تكون لاشيء.
(*) ـ عنوان تهكمي، رداً على الادعاءات بأن هذا السلاح لا يضر البشر أو البيئة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

شباب كثر يمرون بتجارب حب وعشق فاشلة، لكن هذا الإندونيسي لم يكن حبه فاشلاً فقط بل زواجه أيضاً، حيث طلبت زوجته الأولى الطلاق بعد عامين فقط من الارتباط به. ولذلك قرر الانتقام بطريقته الخاصة....
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram