TOP

جريدة المدى > عام > مصير الكائن وعزلته رائحة الشتاء أنموذجاً

مصير الكائن وعزلته رائحة الشتاء أنموذجاً

نشر في: 11 مايو, 2013: 09:01 م

لابد لي من إشارة سريعة للخطاب الأمومي / الانوثي الذي عرفته حضارات الشرق الأدنى القديم ، ابتداءً بسومر وأكد وآشور . وهو خطاب عرفته كل الحضارات في العالم ، ولم تخضع معرفته لتأريخ معين ومحدد . أكدت الأسطورة السومرية والأكدية على أهمية الدور الأمومي الذي

لابد لي من إشارة سريعة للخطاب الأمومي / الانوثي الذي عرفته حضارات الشرق الأدنى القديم ، ابتداءً بسومر وأكد وآشور . وهو خطاب عرفته كل الحضارات في العالم ، ولم تخضع معرفته لتأريخ معين ومحدد . أكدت الأسطورة السومرية والأكدية على أهمية الدور الأمومي الذي لعبته الأنثى في التاريخ ، ولولاها  لما كانت الحضارة الإنسانية بالتحققات التي كانت عليها آنذاك ، ولها مردود ايجابي ودور انعكاسي جيد على اللاحق من الحضارة الإنسانية . ولأهمية هذا الدور وتميزه أطلقت الحضارة السومرية ولسانها اسم ماما ومامي على الأم وما زال حتى هذه اللحظة ، ليس في العربية وإنما في كل معاجم العالم . ينطوي هذا على معنى ثقافي  وديني جوهري للغاية ، وهو أن الأم التي تلد وتنجب هي الحياة كلها ولولا هذا الدور الخصبي لتوقفت الحياة ومات كل شيء .
 ولذا منحت البنية الذهنية العراقية القديمة قيمة إنسانية عالية للمرأة المنجبة وهي دائماً ما تكون المعيار الواضح لنوع الانبعاث والخصب في الحياة والتجدد والديمومة في العالم كله . وظلت هذه الوظيفة حتى اللحظة جوهرية وفاعلة ولا تجد الأنثى مجالها الحقيقي في الحياة ، بعيداً عن الخصب ، لأنها لا تستطيع دعم كينونتها وتأكيدها إلا عبر الخصب ، والمرأة البعيدة عن الانبعاث لا تحوز صفة الكائن الفاعل وسط الكينونة ، حتى أنها تفقد دنيويتها وإرادتها . ومن هذا المدخل السريع سأدخل لقراءة قصة " عابر استثنائي " .
ظلت المرأة حاضرة في السرد والرجل له دور ثانوي في المجال الاجتماعي ، لكنه متمركز في القصة وكأنه منح دوره للزوجة التي وجدته مناسباً لها لعرض ورسم صورة حياتها مع زوجها . واعتقد بان سبب الانشغال بالرجل الكهل هو تعطل الحياة في البيت وعقرها المتصاعد تدريجياً . وتبدى هذا من خلال سيادة الإحساس بالزمن / والشيخوخة وقد تمتع بقدرة عالية على جذب الزوجة لمراقبته على الرغم من عدم معرفتها له ، إلا أن هاجس الزمن والتقادم يضيفان الاندثار شيئا فشيئاً .
لأنها امرأة تقدم بها العمر وحتما رأت الشيب الذي رآه الزوج في مقدمة رأسها . والكل يعرف بان ذلك جرس إنذار بالنسبة للمرأة . وحتما كان الرجل الكهل  المريض هو الهاتف المحرك لهاجس الخوف من استمرار العطل وبقاء العقر لأنهما ينطويان على عزلة ووحدة ، مثلما سيؤكدان على صعوبة تحقيق حلمها بالخصب والانبعاث . واهتمامها بشجيرة الظل والتحديق بالكهل من بين ورقتين من أوراق شجيرة الظل ، البديل التعويضي لعطب الزوج ، وهي علامة رمزية دالة على ضرورة الخصب لها ، كما أن اللون الأخضر إشارة رمزية واضحة على الأنثى وعلاقتها المستمرة بالتجدد . حضور شجيرة الظل محرك فاعل بالنسبة للزوجة وهي ـ أيضا ـ مثيرة المخاوف من استمرار عقرها وعطلها ، لأنها تدرك مثل غيرها من النسوة بان النسليّة معيار ذكري  وثقافي مهم لمقاومة الزمن وامتحان طاقة الجسد الانوثي من أجل الكينونة الأسرية .
هذا إضافة الى أن حضور شجيرة الظل تومئ لمرحلة حضارية بدئية كانت المرأة فيها هي المخترعة للزراعة ومنظمة تقويمها السنوي ، من هنا حصل اقتران واضح بين المرأة والأرض في المنح وتحقيق الخصب .
وضعت الزوجة الشجيرة قرب النافذة لتتحول مكوناً تعبيرياً داخل البيت  المكان . والنافذة روح العلاقة التبادلية بين الداخل  والخارج ، .... كل هذا وصورة الرجل الكهل ضاغطة عليها ، لأنها رأته يسير بطيئاً وكأنه يودع مدينته ، والفردانية واضحة وإحساس بالمصير ضاغط عليها وهيمنة الوحدة متبدّية . وأضاء القاص محمود  عبد الوهاب المشترك بين المرأة والكهل المعطوب برجولته ، وهو الآخر لم يستطع تحقيق نسليّته ، هذا ما شفت عنه متابعته لضجيج التلاميذ داخل المدرسة هؤلاء الكائنات الجديدة  الحية وسط كينونات ما زالت بانتظار فرصتها الواسعة في الحياة ، بينما هو محاصر ويعيش على حافة الحياة والموت [ من بين ورقتي شجيرة الظل التي كانت تحملها على ذراعيها المعقودتين ، رأته . كان يرفع رأسه أحيانا ويديره بتثاقل صوب المارة والمباني المحيطة بجانبي الشارع ، وينصت ، وهو في مشيته الواهنة الى ضجيج التلاميذ من وراء سياج المدرسة ، وعندما عبر الشارع الى الرصيف الآخر ، التفتت نحوه فوجدته يدبّ مطرقاً كأنه يحسب خطواته بانتظام ، وكأن شيئاً ما في داخله ينكسر . كان يجرجر قدميه مثل حيوان جريح ] ص37 .
وثّقت اللغة السينمائية المشترك بين الزوجة والرجل الكهل ، وبدافع التشارك والتعاطف ، لأنهما يعانيان من تعطل الخصب والنسليّة ، الزوجة تعرف جيداً ، بأن شجيرة الظل لن تكون بديلاً عن وجود الأطفال في البيت ، لكنها وسيلتها للحوار مع الزوج المعطل والمعطوب برجولته . وأستطيع القول بأن شجيرة الظل واحدة من تخيّلات المرأة وآليتها لإرسال ضروري لشفرة الموّات .
قلنا بأن الأستاذ محمود عبد الوهاب يتمتع بحساسية عالية في رصده للحياة العامة المحدودة جداً وغير الواسعة . يرى ويلتقط ، ويفرز كثيراً مما يرى ويكتفي بمشاهد الألفة واليومية المتكررة ، يسجلها بلغة بسيطة وعميقة ويمنحها طاقة الشعرية وتباين القراءات واختلاف التأويل ، مثلما يشحنها باحتمال الترميز المكون ضمن سياقات السرد ، رموز مختارة بدقة وذكاء وأخرى طافرة عن شعريتها ووقوعها في محيط البساطة . ولأنه أراد تمركز الخصب والموّات في القصة ، عاد مرة ثانية [ وضعت شجيرة الظل قرب النافذة وأبعدت شفتي الستارة البنفسجية عن بعضها فانسلّ ضوء الشمس فضياً عبر مخمل الستارة الى الصالة سقطت ألسنته على شرشف المائدة وثلاثة صحون بيض صقيلة ، وعلى ملعقة وشوكة موضوعتين على شكل متقاطع في صحن بلوري شفاف ، وعلى جانب من كتف زوجها بقميصه الأبيض الأنيق وربطة عنقه نصف المفتوحة ، التوى شيء مقوس من الضوء وكأنه أفعى ، قالت :
ـ هل نشيخ نحن أيضاً ؟
رفع رأسه وهو يمضغ طعامه :
ـ ليس الآن .
ـ لكن ، هل نشيخ حقاً ؟  ] ...... ص38
هنا حصل انحراف بسيط ، يفضي نحو تحول جوهري في هذه القصة ، وأعني به التمركز أكثر نحو الشيخوخة عبر الحوار الثنائي ، بين الزوجة وزوجها ، إنه عطل الكينونة الواضح في حركة الكهل ، المحدق بالتلاميذ ، متأملاً صخبهم . وإذا قبلنا بمقوله هايدجر ، فإن الكهل فاقد لوسيلته في التواصل ، والتبادل مع الجماعات المجتمعية التي دائماً ما تكون معياراً لأهمية الفرد  الكائن في الحياة والمجتمع وبسبب وحدته وفرديته ، خسر أهم عناصر الكائن الفاعلة في الاندماج مع تعطل كامل لقدرته في التعايش عبر سكون المتخيل ، ومتى ما تعطل الكائن في إنتاج التخيل خسر إمكاناته على البقاء الفاعل .
كشف الوصف الدقيق والشيئيات اللافتة للانتباه ـ والذي سلط الضوء على ما يثيره من غواية ـ اتساع المساحة الإنسانية المتجاوزة قضية الرجل  الكهل التي أومأت للزوج والزوجة . وكان ذلك عبر توصيفه للأفعى والملتقط بغرابة ، لأن محمود عبد الوهاب جعل من الضوء المتسرب من النافذة أفعى سقطت على ملابس الزوج . وأعتقد بأن تشكل هذا الرمز بالطريقة المشار إليها كان قصدياً ، ولم تكن اعتباطية . للأفعى دلالة تتسع وتشمل طرفي المعادلة ، الرجولة / الزوج والأنوثة / الزوجة ، وسأقدم قراءة ارتباطها واضح مع الأصول الثقافية عن المرأة ودورها في الخصب والانبعاث الذي تحدثنا عنه في مطلع هذا المقال وأعني العلاقة الوثيقة جداً بين الأم الكبرى والإلوهة المؤنثة . فالأفعى رمزها ، وعلامتها الدالة عليها وظهرت على أختام اسطوانية عديدة وتشترك المرأة بعناصر مع الأفعى أهمها التجدد والخلود وتميزها بكثرة الخصب ، كما أنها ـ الأفعى ـ الحية حاضنة لمتوالية ثقافية كثيرة ، وأجد بأن الخطيئة التوراتية تومئ للمشترك بين الاثنين ، إنه مشترك الجسد وحاجته الإنسانية للآخر ، حتى يحقق الاتصال الإدخالي اللذّي . والدلالة الأعمق ، والكامنة تماماً التي لها صلة خفية مع الزوج . ولا بد لي من إشارة سريعة توضح تلك الصلة التي تمظهرت بزمن متأخر ، بعد انهيار سلطة الأم الكبرى وتدهور خطابها الأسطوري والثقافي والديني ، وصعد الخطاب البطرياركي / الفحولي على أنقاض ما كان سائداً . هذا يعني ضرورة حصول تغيرات أساسية ، تفك الاشتباك مع ثقافة المرأة التي أنتجتها مع رموزها الفنية . لكن سلطة الذكر ، لم تكن قادرة تماماً على إلغاء رمز الأفعى ، ووجدت حلاً مناسباً ، تمثل في حيازة الأفعى رمزاً قضيبياً واستمر حضوره الثقافي حتى هذه اللحظة .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مدخل لدراسة الوعي

شخصيات أغنت عصرنا .. المعمار الدنماركي أوتسن

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

د. صبيح كلش: لوحاتي تجسّد آلام الإنسان العراقي وتستحضر قضاياه

في مديح الكُتب المملة

مقالات ذات صلة

في مديح الكُتب المملة
عام

في مديح الكُتب المملة

كه يلان محمدرحلة القراءة محفوفة بالعناويــــن المـــــــؤجلة مواجهتُها، ولايجدي نفعاً التسرعُ في فك مغاليقها.لأنَّ ذلك يتطلبُ مراناً، ونفساً طويلاً وتطبيعاً مع المواضيع التي تدرسها تلك الكُتــــب.لاشــكَّ إنَّ تذوق المعرفة يرافقه التشويق باستمرار،لكن الـــدروب إلى...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram