لابد لي من إشارة سريعة للخطاب الأمومي / الانوثي الذي عرفته حضارات الشرق الأدنى القديم ، ابتداءً بسومر وأكد وآشور . وهو خطاب عرفته كل الحضارات في العالم ، ولم تخضع معرفته لتأريخ معين ومحدد . أكدت الأسطورة السومرية والأكدية على أهمية الدور الأمومي الذي
لابد لي من إشارة سريعة للخطاب الأمومي / الانوثي الذي عرفته حضارات الشرق الأدنى القديم ، ابتداءً بسومر وأكد وآشور . وهو خطاب عرفته كل الحضارات في العالم ، ولم تخضع معرفته لتأريخ معين ومحدد . أكدت الأسطورة السومرية والأكدية على أهمية الدور الأمومي الذي لعبته الأنثى في التاريخ ، ولولاها لما كانت الحضارة الإنسانية بالتحققات التي كانت عليها آنذاك ، ولها مردود ايجابي ودور انعكاسي جيد على اللاحق من الحضارة الإنسانية . ولأهمية هذا الدور وتميزه أطلقت الحضارة السومرية ولسانها اسم ماما ومامي على الأم وما زال حتى هذه اللحظة ، ليس في العربية وإنما في كل معاجم العالم . ينطوي هذا على معنى ثقافي وديني جوهري للغاية ، وهو أن الأم التي تلد وتنجب هي الحياة كلها ولولا هذا الدور الخصبي لتوقفت الحياة ومات كل شيء .
ولذا منحت البنية الذهنية العراقية القديمة قيمة إنسانية عالية للمرأة المنجبة وهي دائماً ما تكون المعيار الواضح لنوع الانبعاث والخصب في الحياة والتجدد والديمومة في العالم كله . وظلت هذه الوظيفة حتى اللحظة جوهرية وفاعلة ولا تجد الأنثى مجالها الحقيقي في الحياة ، بعيداً عن الخصب ، لأنها لا تستطيع دعم كينونتها وتأكيدها إلا عبر الخصب ، والمرأة البعيدة عن الانبعاث لا تحوز صفة الكائن الفاعل وسط الكينونة ، حتى أنها تفقد دنيويتها وإرادتها . ومن هذا المدخل السريع سأدخل لقراءة قصة " عابر استثنائي " .
ظلت المرأة حاضرة في السرد والرجل له دور ثانوي في المجال الاجتماعي ، لكنه متمركز في القصة وكأنه منح دوره للزوجة التي وجدته مناسباً لها لعرض ورسم صورة حياتها مع زوجها . واعتقد بان سبب الانشغال بالرجل الكهل هو تعطل الحياة في البيت وعقرها المتصاعد تدريجياً . وتبدى هذا من خلال سيادة الإحساس بالزمن / والشيخوخة وقد تمتع بقدرة عالية على جذب الزوجة لمراقبته على الرغم من عدم معرفتها له ، إلا أن هاجس الزمن والتقادم يضيفان الاندثار شيئا فشيئاً .
لأنها امرأة تقدم بها العمر وحتما رأت الشيب الذي رآه الزوج في مقدمة رأسها . والكل يعرف بان ذلك جرس إنذار بالنسبة للمرأة . وحتما كان الرجل الكهل المريض هو الهاتف المحرك لهاجس الخوف من استمرار العطل وبقاء العقر لأنهما ينطويان على عزلة ووحدة ، مثلما سيؤكدان على صعوبة تحقيق حلمها بالخصب والانبعاث . واهتمامها بشجيرة الظل والتحديق بالكهل من بين ورقتين من أوراق شجيرة الظل ، البديل التعويضي لعطب الزوج ، وهي علامة رمزية دالة على ضرورة الخصب لها ، كما أن اللون الأخضر إشارة رمزية واضحة على الأنثى وعلاقتها المستمرة بالتجدد . حضور شجيرة الظل محرك فاعل بالنسبة للزوجة وهي ـ أيضا ـ مثيرة المخاوف من استمرار عقرها وعطلها ، لأنها تدرك مثل غيرها من النسوة بان النسليّة معيار ذكري وثقافي مهم لمقاومة الزمن وامتحان طاقة الجسد الانوثي من أجل الكينونة الأسرية .
هذا إضافة الى أن حضور شجيرة الظل تومئ لمرحلة حضارية بدئية كانت المرأة فيها هي المخترعة للزراعة ومنظمة تقويمها السنوي ، من هنا حصل اقتران واضح بين المرأة والأرض في المنح وتحقيق الخصب .
وضعت الزوجة الشجيرة قرب النافذة لتتحول مكوناً تعبيرياً داخل البيت المكان . والنافذة روح العلاقة التبادلية بين الداخل والخارج ، .... كل هذا وصورة الرجل الكهل ضاغطة عليها ، لأنها رأته يسير بطيئاً وكأنه يودع مدينته ، والفردانية واضحة وإحساس بالمصير ضاغط عليها وهيمنة الوحدة متبدّية . وأضاء القاص محمود عبد الوهاب المشترك بين المرأة والكهل المعطوب برجولته ، وهو الآخر لم يستطع تحقيق نسليّته ، هذا ما شفت عنه متابعته لضجيج التلاميذ داخل المدرسة هؤلاء الكائنات الجديدة الحية وسط كينونات ما زالت بانتظار فرصتها الواسعة في الحياة ، بينما هو محاصر ويعيش على حافة الحياة والموت [ من بين ورقتي شجيرة الظل التي كانت تحملها على ذراعيها المعقودتين ، رأته . كان يرفع رأسه أحيانا ويديره بتثاقل صوب المارة والمباني المحيطة بجانبي الشارع ، وينصت ، وهو في مشيته الواهنة الى ضجيج التلاميذ من وراء سياج المدرسة ، وعندما عبر الشارع الى الرصيف الآخر ، التفتت نحوه فوجدته يدبّ مطرقاً كأنه يحسب خطواته بانتظام ، وكأن شيئاً ما في داخله ينكسر . كان يجرجر قدميه مثل حيوان جريح ] ص37 .
وثّقت اللغة السينمائية المشترك بين الزوجة والرجل الكهل ، وبدافع التشارك والتعاطف ، لأنهما يعانيان من تعطل الخصب والنسليّة ، الزوجة تعرف جيداً ، بأن شجيرة الظل لن تكون بديلاً عن وجود الأطفال في البيت ، لكنها وسيلتها للحوار مع الزوج المعطل والمعطوب برجولته . وأستطيع القول بأن شجيرة الظل واحدة من تخيّلات المرأة وآليتها لإرسال ضروري لشفرة الموّات .
قلنا بأن الأستاذ محمود عبد الوهاب يتمتع بحساسية عالية في رصده للحياة العامة المحدودة جداً وغير الواسعة . يرى ويلتقط ، ويفرز كثيراً مما يرى ويكتفي بمشاهد الألفة واليومية المتكررة ، يسجلها بلغة بسيطة وعميقة ويمنحها طاقة الشعرية وتباين القراءات واختلاف التأويل ، مثلما يشحنها باحتمال الترميز المكون ضمن سياقات السرد ، رموز مختارة بدقة وذكاء وأخرى طافرة عن شعريتها ووقوعها في محيط البساطة . ولأنه أراد تمركز الخصب والموّات في القصة ، عاد مرة ثانية [ وضعت شجيرة الظل قرب النافذة وأبعدت شفتي الستارة البنفسجية عن بعضها فانسلّ ضوء الشمس فضياً عبر مخمل الستارة الى الصالة سقطت ألسنته على شرشف المائدة وثلاثة صحون بيض صقيلة ، وعلى ملعقة وشوكة موضوعتين على شكل متقاطع في صحن بلوري شفاف ، وعلى جانب من كتف زوجها بقميصه الأبيض الأنيق وربطة عنقه نصف المفتوحة ، التوى شيء مقوس من الضوء وكأنه أفعى ، قالت :
ـ هل نشيخ نحن أيضاً ؟
رفع رأسه وهو يمضغ طعامه :
ـ ليس الآن .
ـ لكن ، هل نشيخ حقاً ؟ ] ...... ص38
هنا حصل انحراف بسيط ، يفضي نحو تحول جوهري في هذه القصة ، وأعني به التمركز أكثر نحو الشيخوخة عبر الحوار الثنائي ، بين الزوجة وزوجها ، إنه عطل الكينونة الواضح في حركة الكهل ، المحدق بالتلاميذ ، متأملاً صخبهم . وإذا قبلنا بمقوله هايدجر ، فإن الكهل فاقد لوسيلته في التواصل ، والتبادل مع الجماعات المجتمعية التي دائماً ما تكون معياراً لأهمية الفرد الكائن في الحياة والمجتمع وبسبب وحدته وفرديته ، خسر أهم عناصر الكائن الفاعلة في الاندماج مع تعطل كامل لقدرته في التعايش عبر سكون المتخيل ، ومتى ما تعطل الكائن في إنتاج التخيل خسر إمكاناته على البقاء الفاعل .
كشف الوصف الدقيق والشيئيات اللافتة للانتباه ـ والذي سلط الضوء على ما يثيره من غواية ـ اتساع المساحة الإنسانية المتجاوزة قضية الرجل الكهل التي أومأت للزوج والزوجة . وكان ذلك عبر توصيفه للأفعى والملتقط بغرابة ، لأن محمود عبد الوهاب جعل من الضوء المتسرب من النافذة أفعى سقطت على ملابس الزوج . وأعتقد بأن تشكل هذا الرمز بالطريقة المشار إليها كان قصدياً ، ولم تكن اعتباطية . للأفعى دلالة تتسع وتشمل طرفي المعادلة ، الرجولة / الزوج والأنوثة / الزوجة ، وسأقدم قراءة ارتباطها واضح مع الأصول الثقافية عن المرأة ودورها في الخصب والانبعاث الذي تحدثنا عنه في مطلع هذا المقال وأعني العلاقة الوثيقة جداً بين الأم الكبرى والإلوهة المؤنثة . فالأفعى رمزها ، وعلامتها الدالة عليها وظهرت على أختام اسطوانية عديدة وتشترك المرأة بعناصر مع الأفعى أهمها التجدد والخلود وتميزها بكثرة الخصب ، كما أنها ـ الأفعى ـ الحية حاضنة لمتوالية ثقافية كثيرة ، وأجد بأن الخطيئة التوراتية تومئ للمشترك بين الاثنين ، إنه مشترك الجسد وحاجته الإنسانية للآخر ، حتى يحقق الاتصال الإدخالي اللذّي . والدلالة الأعمق ، والكامنة تماماً التي لها صلة خفية مع الزوج . ولا بد لي من إشارة سريعة توضح تلك الصلة التي تمظهرت بزمن متأخر ، بعد انهيار سلطة الأم الكبرى وتدهور خطابها الأسطوري والثقافي والديني ، وصعد الخطاب البطرياركي / الفحولي على أنقاض ما كان سائداً . هذا يعني ضرورة حصول تغيرات أساسية ، تفك الاشتباك مع ثقافة المرأة التي أنتجتها مع رموزها الفنية . لكن سلطة الذكر ، لم تكن قادرة تماماً على إلغاء رمز الأفعى ، ووجدت حلاً مناسباً ، تمثل في حيازة الأفعى رمزاً قضيبياً واستمر حضوره الثقافي حتى هذه اللحظة .