عرفت (صلاح القصب) أولاً ممثلاً مبدعاً يثير خيال المخرج ويحفزه لأن يزيد وكان ذلك عندما مثل دوراً مهماً في مسرحية يوجي اونيل التي أخرجتها لمعهد الفنون الجميلة أواخر عام 1964 وأعتقد انني لأول مرة اتخذت من أجساد الممثلين مادة للتكوينات المسرحية المعبرة وكان (صلاح) أكثر زملائه استجابة للتقنية.
ظهرت ميول (صلاح القصب) للتجديد والخروج على المألوف عندما اخرج مسرحية بريخت القصيرة (محاكمة لوكولوس) وفيها استخدم (شخاطة) رمزاً لتابوت مما أثار جدلاً قوياً بين أعضاء هيئة التدريس حول ذلك الاستخدام الغريب وكنت من الذين وقفوا الى جانبه وذلك لان تلك التقنية تثير التساؤل والتأمل، وتحقق ميله الى التجديد عندما اخرج مسرحية جعفر علي (الأبيض والأسود) حيث استخدم تقنية الأقنعة بشكل يثير التساؤل أيضا، وعزز ذلك الميل عندما أخرج مسرحية أعدها عن (ملحمة كلكامش) بعنوان (بوستر سياسي) حيث مزج بين الوثيقة والصورة ومقاطع من الملحمة بتقنية (الكولاج).
في (هاملت) التي أخرجها لطلبة أكاديمية الفنون الجميلة بعد عودته من بعثة الى رومانيا واطلاعه على الأساليب المسرحية المختلفة، أظهر (صلاح) اتجاهه نحو التجريب وذلك استناداً الى فرضية (الشخصية المزدوجة) أو (ازدواج الشخصية) فيمثل هذه الظاهرة السايكولوجية في شخصية (هاملت) التردد بين الثار والتأمل وشخصية (الأم) التي خانت زوجها الملك وشاركت في قتله مع (العم) والوزير (بولوينوس) ذي الوجهين، وبقي استخدامها لمفردات تدل على أجواء الهنود الحمر او القبائل الأفريقية موضع تساؤل.
دعاني (صلاح) لتمثيل دور (لير) في مسرحية شكسبير (الملك لير) وكان معي الشاب (كريم رشيد) يمثل الدور نفسه ولفت انتباهي إن هيأتي الجسمانية وصوتي وخبرتي تختلف تماماً عن هيأة كريم وصوته وخبرته، وأثناء التمارين أدركت رؤية (صلاح) ومعالجته الإخراجية وبنيتها وخصوصاً تقنية استخدام قطعة القماش البيضاء الكبيرة التي استخدمت كدوال مختلفة لمدلولات مختلفة وبينها أمواج البحر التي يغرق فيها ذلك الملك العجوز الذي تنكرت له ابنتاه بعد ان منحهما كل مملكته، ولأن استخدام ذلك القماش قد حقق لصلاح ما سماه (مسرح الصورة) حيث استطعنا انا والممثلون الآخرون ان نشكل منها صوراً مختلفة، في ذلك العمل كان (صلاح) يهتم فعلاً بالصورة المسرحية أكثر مما يهتم بأداء الممثل وبناء الشخصية الدرامية.
بعد (الملك لير) شاركت مع (صلاح) في مسرحيتين لانطون جيكوف هما (الخال فانيا) و(الشقيقات الثلاث)، ولا أدري لحد اليوم لماذا يعجب (صلاح) بشكسبير وجيكوف وكلاهما ينتميان الى المسرح التقليدي في حين ان توجهاته لمخرج تجريبية وهناك العديد من مؤلفي المسرحيات من تتقارب مسرحياتهم مع توجهه هذا، في كلا المسرحيتين وقبلها مسرحية شكسبير لم يلتزم (صلاح) بنص المؤلف وهذا قد حدث ايضاً عندما أخرج (ماكبث) لطلبة كلية الفنون، فتراه يحذف عدداً من الشخصيات وعدداً من المشاهد من نص المسرحية، ونذكر على سبيل المثال ان حذف شخصيتين من الشقيقات الثلاث وأبقى على واحدة.
من خصائص (صلاح القصب) الإخراجية تأسيس تصورات مسبقة لمعالجته الإخراجية ويظل يتأمل تلك التصورات لمدة تسبق العرض ومثلاً على ذلك أسس ما يشبه المقبرة في إحدى قاعات قسم الفنون المسرحية بكلية الفنون قبل شهور من عرض المسرحية للجمهور.
ومن خصائصه أيضاً الاهتمام بالصورة المسرحية كما ذكرت سابقاً وذلك الاهتمام يقوده الى تحقيق أجواء تجتذب الجمهور بقوة ومن مظاهر تلك الأجواء تشتيت البؤرة حيث ترى داخل الصورة الواحدة عدداً من الأجسام المتحركة في آن واحد، ولعل تقنية التشظي هي الأبرز في عملية (صلاح الإخراجية) والتلقائية والصدفة ومزج العناصر المتناقضة وعدم الوحدة الفنية والتزامن والحرية التامة كلها من خصائص المدرسة الدادائية أو السوريالية وليس من خصائص مسرح الصورة وحسب فمسرح الصورة كما اقترحه المخرج الايطالي (فرانكو زيغيريلي) ومن قبله المبدع (غوردن كيريغ) لا تلجأ الى تقنيات مشابهة لتقنيات المدرستين المذكورتين.
صلاح القصب مجدد مسرحي مؤثر
[post-views]
نشر في: 13 مايو, 2013: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...