من مؤشرات النضوج المجتمعي، قبول الآخر، وقبول الاختلاف، والتعامل مع الرأي الآخر بطريقة متمدنة، تدل على سعة البال والنفس والعقلية التي يحملها الإنسان، و يزن بها الأفكار والأشياء وأنماط الحياة التي تختلف عن حياته وأفكاره وقناعته، إذاً لا ينبغي لك أن تتو
من مؤشرات النضوج المجتمعي، قبول الآخر، وقبول الاختلاف، والتعامل مع الرأي الآخر بطريقة متمدنة، تدل على سعة البال والنفس والعقلية التي يحملها الإنسان، و يزن بها الأفكار والأشياء وأنماط الحياة التي تختلف عن حياته وأفكاره وقناعته، إذاً لا ينبغي لك أن تتواطأ مع الفكر المختلف، لكن لا يصح لك نسفه بأية حال، بل عليك قبوله والتعامل معه بحيادية من دون ان تعمل به، أو تقبل فرضه عليك من لدن الطرف الآخر، مثلما لا يجوز لك إطلاقا ان تفرض رأيك على الآخرين، أو تحسبهم من الخطّائين، وتعلن أن رأيك هو الأوحد في الصواب.
يتفق المعنيون من مفكرين وسياسيين وغيرهم، على أن درجة التعايش بين مكونات المجتمع، هي المعيار الأكثر دقة على مدى تحضّر ذلك المجتمع، بمعنى أوضح، كلما كان المجتمع ومكوماته أكثر استعدادا للتعايش والانسجام والتقارب والتناغم، كلما كان المجتمع أكثر تطورا وتقدما واستقرارا واقترابا من كمال التحضّر، في العيش والتفكير والسلوك على نحو عام، لذلك تعد سمة التعايش من أهم قيم التقدم، كونها استطاعت ان توحد المجتمعات، وتجعلها أكثر استقرارا وتناغما، ومن ثم تصبح مجتمعات مستقرة ومنتجة.
لهذا تبدأ المجتمعات الواعية في نشر ثقافة التعايش بين الأطفال أولا، صعودا الى الفئات العمرية الأخرى، ولكن هي تضمن أولا نشر هذه الثقافة بين الأطفال لكي ينمو الإنسان وهو حاملا في تكوينه الفكري والسلوكي، ثقافة التعايش والاندماج في المجتمع، بغض النظر عن الاختلافات الفكرية والعرقية والدينية وما شابه، لهذا لا تتعرض مثل هذه المجتمعات الى أية أزمة أو حالة من حالات التطرف، والتعصب والتكفير كما يحدث في بعض المجتمعات والدول الإسلامية، حيث يلجأ كثيرون الى تكفير الآخر، لمجرد الاختلاف في الرأي، أو الفكر أو الدين أو الثقافة أو العرق وما شابه.
وهكذا تخلصت كثير من الشعوب من حالات الاحتقان المجتمعي بسبب اختلاف المكونات من حيث طبيعة الانتماء، ولكن درجة تحضّر تلك المجتمعات وتمدنها، جعلها أكثر قدرة على الاندماج السريع، وفض الخلافات عن طريق القيمة الأرقى من بين قيم التقدم ألا وهي قيمة التعايش التي تمحو حالات الصراع، وتحول حالات التعصب والتطرف الى حالات تناغم وتفاهم وانسجام، مما يخلق حالة من الاستقرار الدائم والقوي وهذا بدوره يشجع على الإبداع وتنمية المواهب والقدرات الكامنة في دواخل الإنسان، على العكس فيما لو كانت الأجواء محتقنة ومتشنجة بين مكونات المجتمع، إذ يؤدي هذا الى قتل المواهب وتبعثر الطاقات واندثارها، بسبب حالات الصراع والأزمات المتلاحقة التي يعاني منها المجتمع الذي لا يؤمن بالتعايش ولا يعمق هذه القيمة الكبيرة.
أما الكيفية التي يتم من خلالها نشر هذه القيمة بين مكونات المجتمع ابتداءً من الأطفال، فإن الأمر يتطلب جهدا وتخطيطا دقيقا وتنفيذا مخلصا من لدن الجهات المعنية، لاسيما الجانب الحكومي والجهات التعليمية التربوية المعنية، فضلا عن المؤسسات والمنظمات التي تُعنى بنشر قيم المحبة والسلام والتسامح بين أوساط الشعب كافة، ولاشك ان الدولة ينبغي لها ان تدعم هذا الاتجاه وتقدم التسهيلات اللازمة للجهات الفاعلة والناشطة في هذا المجال، اذ يتطلب الأمر نوعا من الدعم الحكومي لاسيما المادي لإقامة النشاطات المختلفة كالندوات وعرض الأعمال الفنية في قاعات عرض جيدة ومناسبة، وإقامة دورات التدريب والترويج الفعلي لقيمة التعايش بين الأطفال وجميع الفئات لضمان انتشار هذا القيمة، لتصبح في آخر المطاف منهجا سلوكيا يوميا معتادا من لدن الجميع، وليس حالة مظهرية شكلية يتداولها البعض من اجل التجميل الخارجي أو لتمرير أهداف سياسية وما شابه.
وهكذا ينبغي أن يعتني الجميع بنشر ثقافة التعايش، لأنها الوسيلة الأسرع والأنجع لاستقرار المجتمع، ولجعله قادرا على الإنتاج والإبداع المتواصل، والدخول في العالم المتحضر من خلال قيمة التعايش والتناغم المجتمعي.