TOP

جريدة المدى > عام > المكتشفات البايولوجية الحديثة تعيدني الى اهتماماتي اللغوية *

المكتشفات البايولوجية الحديثة تعيدني الى اهتماماتي اللغوية *

نشر في: 14 مايو, 2013: 09:01 م

أرسلت إليّ ابنتي زينب البريد الإلكتروني الآتي: " معظم البريطانيين تحدروا من فلاحين ذكور تركوا العراق وسوريا قبل عشرة آلاف سنة ( وقد أغوتهم نساء محليات من مجتمع كان يعيش على الصيد وجني القوت)". هذا الخبر أذهلني ، وأعاد إليّ ثقتي في نفسي. ففي منتصف ال

أرسلت إليّ ابنتي زينب البريد الإلكتروني الآتي: " معظم البريطانيين تحدروا من فلاحين ذكور تركوا العراق وسوريا قبل عشرة آلاف سنة ( وقد أغوتهم نساء محليات من مجتمع كان يعيش على الصيد وجني القوت)".
هذا الخبر أذهلني ، وأعاد إليّ ثقتي في نفسي. ففي منتصف التسعينات كتبت دراسة جاء فيها (في ضوء فرضية العامل الزراعي، هل كان الوطن الأقدم للأقوام الهندية- الأوروبية في شمال وادي الرافدين؟) اقتحام عالم الكتابة مهمة صعبة، وقد يكون مخاطرة، لا سيما إذا لم تكن مختصاً في الموضوع الذي وجدت نفسك مستدرجاً للكتابة فيه. وهذه "الورطة" لازمتني أكثر من عشرين سنة، عندما استهوتني الكتابة عن عالم اللغة. والعتب يعود إلى الكاتب اللبناني، وأستاذي يوماً ما، الدكتور أنيس فريحة، الذي غرس فيّ حب اشتقاق الكلمات. ما هو أصل كلمة "الجن" مثلاً. 
وكتبت كثيراً عن اللغة، وعن عالمي اللغة والأسطورة. ونشرت بعض هذه الكتابات في كتب. ثم رأيت أن أنسحب من الميدان بعد أن نشرت كلمة في "الحياة" تحت عنوان "المشي على البيض". فقد بدأت أشعر أنني أستطيع أن "أجترح" فرضيات، وهذا كثير جداً لمن لا يملك اختصاصاً في الموضوع. من أكون أنا فأزج نفسي بين باحثين مختصين في الموضوع، فأزعم مثلاً أن الأقوام الهندية- الأوروبية انطلقوا من وادي الرافدين؟ وطلقت عالم اللغة بغير حسرة، فأنا أحب أن أكتب عن أشياء أخرى، كالفيزياء والموسيقى، وحتى الرواية!
ولم أكن نادماً، ولم يستبد بي الشوق إلى عالم اللغة، رغم اعتزازي بما كتبته في هذا الشأن. ثم وصلني البريد الإلكتروني الذي أشرت إليه في مستهل هذه الكلمة، فأدار رأسي. نحن والأوروبيون أقارب؟ وكنا نميل إلى هذا الاعتقاد من واقع انتشار زراعة الحنطة غرباً. وموطن الحنطة الأصلي كان في شمال سوريا. ثم جاءت الدراسات البايولوجية لتعزز ذلك.
فبعد دراسة الـ DNA لأكثر من ألفي رجل، أكد الباحثون أن لديهم أدلة دامغة على أن أربعة من خمسة أوروبيين في وسعهم أن يترسموا جذورهم إلى الشرق الأدنى.
لقد درست أبحاث جامعة لستر عن الطفرات الجينية المشتركة لكروموسوم (Y) ، الـ DNA الذي تحدر من الآباء إلى الأبناء، ووجدت أن ثمانين في المئة من الرجال الأوروبيين لديهم نفس الطفرة في الكروموسوم (Y)، وبعد تحليل كيف أن الطفرة انتشرت في أوروبا، استطاعوا التوصل إلى أن أوروبا تم استيطانها في حدود ثمانية الآف عام ق. م. وقال البروفيسور مارك جوبلنغ، الذي رأس هذه الدراسة: "كان ذلك في زمن الثورة النيوليثية (العصر الحجري الحديث) عندما طوروا أسلوباً جديداً في صنع الآلات، أدوات جميلة ومتناسقة". وقال: "في هذه المرحلة، قبل حوالي عشرة آلاف عام كان هناك دليل على المستوطنات الأولى، حيث كف البشر عن ممارسة حياة البداوة والصيد، وبدأوا ببناء المجتمعات".
وبدأت الزراعة - التي امتدت إلى أوروبا - في حدود تسعة آلاف سنة ق.م. في الهلال الخصيب، وهي منطقة تمتد من الساحل الشرقي للبحر المتوسط إلى الخليج العربي، وتضم العراق وسوريا وفلسطين ولبنان وجنوب تركيا. وكانت هذه المنطقة مهداً للحضارات البابلية والسومرية والآشورية.
ويرى بعض علماء الآثار أن بعض هؤلاء الفلاحين جابوا العالم، واستوطنوا أراض جديدة ونقلوا إليها مهارات الزراعة. بيد أن آخرين يؤكدون أن هذه المهارات انتقلت من فم إلى آخر، وليس عن طريق الهجرة الجماعية. إلا أن هذه الدراسة الجديدة تذهب إلى أن الفلاحين كانوا يحملون عصيهم ويمضون باتجاه الغرب عندما تضيق بهم قراهم. وكانت بريطانيا وأيرلندا آخر موطئ قدم لهم. ويقول البروفيسور جوبلنغ: "بعد أن تم التوسع كانت لدى هؤلاء الرجال أفضلية لأنهم كانوا قادرين على انتاج طعام أكثر(من الصيادين وجناة القوت)، وبذلك كانوا أكثر اجتذاباً للنساء وأكثر إنجاباً"!
نفترض أن هذه الدراسة تشمل أوروبا أيضاً، ولا تقتصر على بريطانيا وأيرلندا . وإلا كيف يصل المزارعون من الهلال الخصيب إلى بريطانيا دون أن يمروا بأوروبا؟ وقبل تقدم علم الجينات كانت هناك نظريات حول الوطن الأم للأقوام الهندية - الأوروبية (بمن فيهم البريطانيون). سأشير إلى هذه النظريات دون الدخول في تفاصيل لأن الحيز المتاح لهذه الكلمة محدود.
النظرية الأكثر شيوعاً حول أصل الأقوام الهندية - الأوروبية هي النظرية السهوبية (أو السهبية إذا تشددنا عربياً!) وهذه النظرية تذهب إلى أن موطن الأقوام الهندية - الأوروبية الأصلي كان جنوب روسيا وأوكرانيا، أو ما بين بحري قزوين والأسود. وهذه المنطقة هي موطن الحصان المدجن، الحيوان المقترن بالأقوام الهندية - الأوروبية. طبعاً إلى جانب أدلة أخرى، لغوية وأنثروبولوجية، قلنا إننا لن ندخل في تفاصيلها. أول من قال بهذه النظرية بينفي منذ العام 1868. ثم أحيا هذه النظرية مجدداً عالم الآثار الأسترالي الشهير غوردن تشايلد في الفترة (1926- 1950). وفيما بعد تقدمت العالمة السوفياتية المعروفة ماريا غيمبوتاس بمزيد من الأدلة والحجج حول هذه الفرضية. وقد حظيت نظرية غيمبوتاس السهبية بتأييد عدد أكبر من العلماء، وتبنتها الموسوعة البريطانية وموسوعة لاروس الفرنسية ( وإن كان هذا لا يعني بالضرورة صدقية علمية لا جدال فيها).
ثانياً: الفرضية القائلة بأن منطقة ما وراء الكاربات وأراضي الدانوب وما وراءه (مورافيا، سلوفاكيا، المجر...) كانت المهد الأول للأقوام الهندية - الأوروبية. ففي هذه المنطقة ظهرت أربع حضارات ترقى إلى الألفين الخامس والرابع ق. م. هذا إلى جانب أدلة أخرى آثارية ولغوية، إلخ.
ثالثاً: الفرضية القائلة بأن شمال أوروبا (منطقة البلطيق) كانت مهد الأقوام الهندية - الأوروبية. وتستند إلى أدلة لغوية، لا سيما أسماء العديد من الأنهار التي تشترك في مقاطع نهاياتها، ووجود نماذج هندية - أوروبية صرف من النباتات والحيوانات في هذه المنطقة، مثل البلوط والزان وسمك السالمون، إلخ. بالإضافة إلى قدم اللغة الليتوانية. لكن بعض أسانيد هذه النظرية لم تصمد أمام النقد.
رابعاً: منطقة البلقان - الكاربات. ومن بين القائلين بها غيورغييف (1958)، ودياكونوف (1982). وهذه أيضاً تفتقر إلى الأدلة الآثارية. فضلاً عن أنها لا تقدم تفسيراً للاتصالات الطويلة الأمد بين اللغة الهندية - الأوروبية ولغات القفقاس، واللغات السامية وغيرها.
خامساً: منطقة أرمينيا أو شرقي الأناضول، التي يرجحها العالمان اللغويان "السوفياتيان" غامكر يليدزة وإيفانوف (1972- 1985). وتستند هذه الفرضية إلى العامل البيئي (الأيكولوجي) بصفة خاصة. وهي تطرح نظريات لغوية جديدة في اطار تطور الأصوات (الحروف) الساكنة في اللغات الهندية - الأوروبية، وبنية نحوية معدلة. ويقول هذان العالمان: "إن المنطقة الأصلية للموطن السلفي للأقوام الهندية - الأوروبية تنطبق عليها مواصفات المنطقة الممتدة بين شرقي الأناضول، وجنوب القفقاس، وشمال وادي الرافدين في الألفين الرابع والخامس ق.م.". لكن حجتها تستند في الأساس إلى أدلة بيئية ولغوية، بما في ذلك العديد من المفردات المستعارة من اللغات السامية، الأمر الذي يدعو إلى الاعتقاد بافتراض تجاور جغرافي في مرحلة مبكرة.
وأنا معجب بالقائمة من المفردات البيئية المشتركة بين اللغات الهندية - الأوروبية التي وضعها هذان العالمان. وسأعمد إلى تعدادها متراجعاً عن الرغبة في الإيجاز. 
من المفردات المناخية في هذه القائمة نجد مثلاً : الشتاء، الثلج، البرد، الجليد، الحر، الدفء. ومن بين المفردات الجغرافية: قمة، جبل، صخرة، حجر، هضبة، عالٍ، ريح شمالية جبلية.
ومن المفردات النباتية المشتركة بين لغات المجموعة التي وضعها هذان العالمان: الحور الرجراج، الطقسوس، الزان، البتولا، الدردار، الصنوبر، الكاربينوس، البلوط، البلوط الجبلي، الزيزفون، الصفصاف، التفاح، الكرز، التوت، الجوز، العنب، الورد، الخلنج.
ومن بين أسماء الحيوانات: القندس، ثعلب الماء (القضاعة)، الوعل (الأيل، الظبي)، الحنزير البري، الثور البري، الأرنب، الدب، الذئب، الثعلب، إبن آوى، الوشق، الفأر، الحنار، النمر الأرقط، الأسد، السرطان، الطير الصغير، نقار الخشب، الشرشور، الطير المائي، الوز، التم، الكركي، النسر، الغراب، الطيهوج، السالمون، الحنكليس.
وهي قائمة تبقى موضع نقاش، لأن بعض اللغويين يرون أن بعض مفرداتها مستعارة من لغات أخرى، سامية مثلاً، كالأسد. لكن الباحثين يصران على أن الأسد كان معروفاً عند الأقوام الهندية – الأوروبية. والغريب أنني لم أجد ذكراً لاسم الحصان، مع أنه حيوان هندي - أوروبي بامتياز.
لكنني كنت أرجح نظرية غامكر يليدزة وإيفانوف على سواها لأنها تعتبر منطقة تل حلف على الخابور (شمال سوريا) موطناً أول للأقوام الهندية - الأوروبية.
وهناك نظريات أخرى، نذكر من بينها نظرية الباحث البريطاني كولن رينفرو التي تعتبر غرب الأناضول موطن الهنود الأوروبيين. وتستند هذه النظرية إلى عامل الانتشار الزراعي (زراعة الحنطة). وأنا وجدت العامل الزراعي عنصراً مهماً في هذا الاطار. وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا كان الانتشار من غربي الأناضول، كما يرى رينفرو، وليس وادي الرافدين، الموطن الأصلي لزراعة الحنطة (أو شمال سوريا بالذات)؟ وأخيراً هل نحتكم إلى عامل الجينات في هذا الموضوع، وهي دراسة علمية، ونعيد النظر بما جاء في النظريات المشار إليها أعلاه، أو نعتبرها أدلة متأخرة عن تأريخ انطلاق الأقوام الهندية - الأوروبية من الهلال الخصيب (العراق وسوريا) قبل عشرة آلاف سنة؟ أم أن هذه الدراسة البايولوجية في حاجة إلى مزيد من التراكم الإحصائي؟ لكننا نرجو أيضاً أن لا يكون هناك تآمر على اسمي العراق وسوريا لطمس هذا الاكتشاف التأريخي المهم.
وفي هذا الاطار، لا أذكر من قال أن هناك نقاط التقاء بين اللغات السامية ومجموعة اللغات الجرمانية (الانكليزية تابعة إلى اللغات الجرمانية). كما أن هذا يدعونا إلى إعادة النظر في النظرية اللغوية "النوستيرية" التي تقول بوجود جذور مشتركة بين ست مجموعات لغوية من بينها اللغات السامية والهندية - الأوروبية.
* ينشر هذا المقال بالتزامن مع "الحياة" اللندنية

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مدخل لدراسة الوعي

شخصيات أغنت عصرنا .. المعمار الدنماركي أوتسن

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

د. صبيح كلش: لوحاتي تجسّد آلام الإنسان العراقي وتستحضر قضاياه

في مديح الكُتب المملة

مقالات ذات صلة

في مديح الكُتب المملة
عام

في مديح الكُتب المملة

كه يلان محمدرحلة القراءة محفوفة بالعناويــــن المـــــــؤجلة مواجهتُها، ولايجدي نفعاً التسرعُ في فك مغاليقها.لأنَّ ذلك يتطلبُ مراناً، ونفساً طويلاً وتطبيعاً مع المواضيع التي تدرسها تلك الكُتــــب.لاشــكَّ إنَّ تذوق المعرفة يرافقه التشويق باستمرار،لكن الـــدروب إلى...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram