كلما جئت الى اسطنبول أوصتني زوجتي بأن أنثر القمح لطيور تجتمع دون سبب واضح حول عمود تشمبرلي طاش. وتوصيني بأن أردد اثناء ذلك قصيدة للايراني سياوش قميشي: "الطير المحبوس في القفص. معتاد على الوحشة. يتبدد عمره دون رفيقة في هذا السجن. لا يعرف معنى الترحال ولا تشرد العاشقين. كلما رميت له حبوب القمح تخيل انك ربه".
ان الطيور هذه تتجمع قرب عمود له حكاية مع الرب، فالاسطورة البيزنطية تحكي ولادة اسطنبول بوصفها قرار الالهة الغاضبة.
لقد شعر ابولون إله الحكمة عند الاغريق والرومان، بأن فساد الطبقة السياسية في روما اصبح لا يطاق. وفي لحظة سخط وملل اقتلع عمودا عملاقا من مجلس الشيوخ وطار به الى السماء السابعة وراح يبحث عن ارض جديدة لم يخربها الفساد. وبعدما جال الارضين السبع عثر على نقطة تتوسط بلاد العقل وبلاد الحس، الغرب والشرق. فصارت القسطنطينية عاصمة بيزنطة واسلام بول لاحقا (جسر الاسلام). غرس الاله فيها العمود الروماني وأمر ببناء العالم الجديد هربا من فساد الطبقة السياسية في العالم القديم.
امشي هنا بين حشود هائلة جاءت من كل مكان لتلقي نظرة على جدار روماني ببصمة الاله ابولون. الاتراك نقشوا على الجدار بخط الثلث كلمات عربية، وبالخط النسخ اشعارا فارسية. وهناك لوحات ايضاح مكتوبة بكلمات تركية وحرف لاتيني. والناس تأتي من كل الاصقاع لمشاهدة هذا الامتزاج العابر للعصور. اما الاصدقاء الذين يقرأون معي اخبار بلادنا فيبحلقون مثلي في وجوه الايطاليين والافرنجة واليابانيين واليهود وباقي الاجناس، ولديهم سؤال واحد: لقد انهى الجميع حربهم، بينما نحتار نحن في اختيار نهاية مناسبة لحروبنا الطويلة. لماذا كلما انقضت حرب ولدت اخرى؟
نبحلق في السويديين طوال القامة، العيون المليئة بالحياة للانغلوساكسون، والوجوه المليئة بملامح الدقة والنظام لليابانيين والمضيفين الاتراك المزهوين بأن كل الدنيا تحج نحوهم، كل هؤلاء تعلموا انهاء حروبهم، بينما بقينا نحن عالقين بين الملل والنحل المتلاعنة والامم والفرق التي لم تجرب النجاة وتكتفي بالحلم بها. وجلسنا طويلا على باب الالهة، ننتظر ان تغضب يوما على الساسة الحمقى، وتبني عالما جديدا يجلب السلام.. والالهة لا تمنحنا سوى المزيد من حماقات السلاطين.
السائق الذي يقلنا كردي من ديار بكر. اتلعثم معه بالكردية ويتلعثم معي بالانجليزية، لكنه فرحان بأخبار تقول ان هناك سلاما سيحل بين الترك والكرد، وان اوجلان سيشارك في صناعته ليحل الامن وتنهمر الاستثمارات الصناعية والزراعية على مدينته البعيدة. وفي الحقيقة فان انهاء الحرب الطويلة مع اوجلان ومقاتلي بي كي كي في هذا الوقت، حيث تشتعل المنطقة، حكمة ينبغي ان تسترعي الانتباه. وحلول سلام كهذا سيأتي على العراق بالخير وسيوقف المدفع التركي عبر الجبال. ويسهل انتقال المصالح مع اوربا.
لكن كثيرين في بغداد لم يمنحوا انفسهم وقتا بهدف تدبر طرائق التهدئة وأساليب فض النزاعات، بل راحوا يتهمون ويوزعون الخيانات. يسألون بغضب وكأنهم لا يعلمون: ماذا يعني دخول المقاتلين الاتراك الى العراق؟ والناس تضج بالسؤال، وننسى انهم لن يدخلوا الى اي عراق ذي سيادة بل الى بقعة وعرة لم يستطع ترويضها لا طالباني ولا بارزاني ولا بغداد ولا طهران ولا جيش تركيا العضو في الناتو. انه انسحاب لقاعدة منيعة كوضع مؤقت سينتهي مع تحول الصفقة الى حقيقة. واذا نجحت الصفقة فلن يعود هناك سلاح على سفح قنديل.
كم كان ليبدو مشهدا سعيدا لو كان سلطان بغداد جزءا من هذا السلام؟ ولكن لم نسمح لانفسنا حتى ان نفكر كيف نجح الكرد والاتراك بتجاوز ماض دموي وقرروا البدء بالتصالح. لم نقم بخطوة تشجع.
بعض سلاطين بغداد يشعرون بالحزن لأن خصمهم (ولماذا صار خصمهم؟) يفرغ من حربه. ولو لم تتعكر العلاقة مع تركيا لامكن تحويل الاتراك الى عنصر تهدئة يقوم بالوساطات حين تتعذر، ويوضح الصورة حين تلتبس.
لماذا لا تنتهي حربنا؟ لماذا لا نحاول التدبر بمعنى السلام. ان القدر يجعل المفاتيح بيد ساسة ذوي حلم فاسد. يصمون الاذان عن النصح، ويتحمسون للون اللهب. أما أن يتحول الاخرون الى خاضعين لتدبيرهم الأهوج، أو يعلنوا الحرب عليه الى يوم القيامة. دائما كنا نخرب بهذه الطريقة.
اسطورة سياوش قميشي تعرضت لتطوير على يدي. انثر القمح لطيور الاله ابولون، وأتخيل ان في وسعها ان تصلي كي نعثر على إله حكمة يثأر لكل الحكمة المنتهكة بين النهرين، او تحلق فوقنا وتصلي كي نعثر على نهاية مناسبة لحربنا، كما حلقت على سفح قنديل.
إله الحكمة على سفح قنديل
[post-views]
نشر في: 19 مايو, 2013: 10:01 م
جميع التعليقات 1
قاسم عبد اللة
ان مايدور في العراق منذ الاف السنين هو بسبب جارة السوء.... ( الجمهورية الاسالامية )...