إذا كانت الديمقراطية تعني حق الجميع في الوجود وشغل المساحة والموقع الذي يريدون وتقديم ما يحلو لهم، فإنها، أي الديمقراطية، تعني أن تمتلك، أنت أيضاً، الحق في اعتبار ما يقدّمه البعض تفاهة مُطلقة، وذلك هو الاحساس الذي انتابني وانتاب الكثير من الن
إذا كانت الديمقراطية تعني حق الجميع في الوجود وشغل المساحة والموقع الذي يريدون وتقديم ما يحلو لهم، فإنها، أي الديمقراطية، تعني أن تمتلك، أنت أيضاً، الحق في اعتبار ما يقدّمه البعض تفاهة مُطلقة، وذلك هو الاحساس الذي انتابني وانتاب الكثير من النقاد الذين غادروا قاعة صالة لوميير، وقد انطبعت على وجوههم( وجوهنا) ابتسامة محتارة حول قرارنا بالاستيقاظ صباحاً في السادسة والنصف والهروع إلى القاعة والوقوف في الطابور لمشاهدة فيلم تافه، بكل المعاني، يروي قصة شاب عصابي امريكي، قتل والده وهرب إلى تايلاند وفتح برفقة شقيقيه العصابي والمهووس جنسياً أكثر منه، نادياً للكيك بوكس. نكتشف فيما بعد أن أمّه، عرّابة وزعيمة
ذلك هو فيلم " الرب لوحده هو من يغفر" للمخرج الدانماركي نيكولاس ويندينغ ريفن، ويروي عن عرّابة عصابة مخدّرات أمريكية، كانت السبب في عصابية ولديها اللذين هربا من الولايات المتحدة بعد أن أقدم الصغير، جوليان ( ويؤديه بسطحي مطلقة رايان غوسلينغ) على قتل والده. وإذا ما خلعنا عن الفيلم هذا المعطى النفسي، فإن كل ما فيه مصطنع، غث سطحي ومقلّد، تقوده رغبة مخرج دانماركي أن ينافس مخرجي أفلام المافيا والإجرام المشرقيين، دون أن يتمكّن من الاقناع.
وقد يتساءل القارئ: "إذا كان الأمر كذلك، فلماذا توجع دماغي بالحديث عنه؟!"
هو مُحقٌ في ذلك مئة في المئة، لكن كان عليّ إعلامه بهذا الغث الذي ضمّه المدير الفني للمهرجان في مسابقته الرسمية.
شريط مفيد
زميلة ناقدة تركية، قالت لي، ونحن خارجان من القاعة: " بعد هذا الهراء، سأذهب لأنجز أمراً ضرورياْ ومفيداً، أنا ذاهبة لمحاورة المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد عن فيلمه "عمر".
وهو بالفعل شريط مفيد، ما قدّمه هاني أبو أسعد ضمن برنامج " نظرة ما" في هذه الدورة من المهرجان.
ويروي شريط "عمر" قصة يومية تحدث في فلسطين كل يوم، ويضع هاني أبو أسعد مشاهده ، عبر هذا العمل، أمام الثلاثي الرهيب الذي يواجه الفلسطيني الذي يعيش في داخل إسرائيل أو في مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية: " السجن"، "الاستشهاد" أو "الخيانة"، ولا يرى خياراً آخر، ما يعني غياب أي أفق لحلٍ ما للقضية، على المستقبل المنظور، على الأقل.
ففيما بدا المخرج في شريطه الأول " زواج رنا" أكثر تفاؤلية عبر قدرة الشابة رنا على التعامل مع مستقبلها كإمرأة، وسخريتها من الأشياء التي كانت تقرب من لعب الصِبية، وعرض التواجه ما بين الفلسطيني والاحتلال عبر يوميات حياتية، عاد في "الخروج من الجنة" ليلج إلى داخل الفلسطيني وأعباء تاريخه على كاهل حاضره، عبر الرغبة الجامحة لشاب مُقدم على عملية انتحارية لـ" غسل عار" يلاحقه بسبب اتهام والده بالخيانة، ولاستعادة نقاء اسم ذلك الأب الذي يعتقد هو، أو يؤمن، ببراءته ممّا يُتّهم به.
خبز .. وحب
مفردتان أساسيتان ليوميات الشاب عمر ( ويؤديه ببراعة وحيوية آدم بكري) الذي يُغامر بحياته كل يوم بتسلق جدار الفصل العنصري بين الضّفة ومناطق الـ 48 للوصول إلى حبيبته نادية، شقيقة، صديق العمر، طارق ( يؤديه إياد هاروني) وليلتقي الإثنان بالصديق الآخر أمجد (يؤديه سامر بشارات) وليخططوا معاْ عملية فدائية تنتهي بقتل جندي إسرائيلي. يُعتقل إثرها عمر ويخضع إلى تعذيب قاسٍ وتتمكن الشرطة الإسرائيلية من استدراجه منتزعة منه نصف اعتراف يُصبح كسيف دامقليس المُسلّط على رأسه ويُدخله في دوّامة تُشوّب نقائه الوطني وتُدخله دائرة الشكوك، التي لا خلاص منها إلاّ بقرار لا يقدم على مثيله إلاّ من كان نقياً في داخله مئة في المئة.
وباستفادته من القدرة الأدائية والحيوية والجهد العضلي الكبير الذي يبذله آدم بكري ( إبن النجم الفلسطيني الكبير محمد بكري) فقد بنى هاني أبو أسعد شخصية عمر على معطيين أساسيين، هما الخبز والحب، فالشاب يعمل خبازاً، أي هو من يمنح الغذاء للناس، وهو غارق في حب حبيبته نادية، ويراها مبتغى آماله، وليس بإمكان شخصية مثل هذه إلاّ أن تكون إيجابية وباعثة على الأمل، برغم المأساة، وهي، أي شخصية عمر، ترسم المعطى الرابع إلى جانب ثالوث الاستشهاد، السجن أو الخيانة، الذي وضعنا هاني أبو آسعد إزاءه في مفتتح الفيلم، أي معطى الأمل الذي لن يموت ابداً، بعيداً عن أية شعارية وحماس، فمن يصنع الخبز ويحب، مؤمن تماماً بما قاله الكبير محمود درويش " على هذه الأرض ما يستحق الحياة..."