TOP

جريدة المدى > عام > موفق محمد يدق ((جرس الدرس الأخير))!!

موفق محمد يدق ((جرس الدرس الأخير))!!

نشر في: 25 مايو, 2013: 10:01 م

منذ أن أغوتني لعبة الشعر بمفرداتها الأثيرة , كنت أقرأ له بشغف واعجاب ,وما زلت أتحسس طعم قصيدته ((الكوميديا العراقية)) التي نشرها اوائل عام 1970 في مجلة الكلمة النجفية التي كان يصدرها الاستاذ حميد المطبعي , والتي أحدثت ضجة واثارت اهتماما في اوساط المش

منذ أن أغوتني لعبة الشعر بمفرداتها الأثيرة , كنت أقرأ له بشغف واعجاب ,وما زلت أتحسس طعم قصيدته ((الكوميديا العراقية)) التي نشرها اوائل عام 1970 في مجلة الكلمة النجفية التي كان يصدرها الاستاذ حميد المطبعي , والتي أحدثت ضجة واثارت اهتماما في اوساط المشتغلين في المشهد الثقافي المحتدم حينذاك ,لما تضمنته من شجاعة الصوت ودقة التشخيص واناقة اللغة وادهاشها.منذ ذلك الحين سلكنا معا دروب المحبة والأبداع ولقاءات المساءات الجميلة في بيت ((بداري)) واماكن اخرى ما زالت حلاوتها تكتب تأريخا من الوفاء والصدق , وكنا ثلاثتنا – هو وناجح المعموري والاحول ابن العلوية لا نفترق الا لنلتقي على المحبة والشعر والمتع النبيلة والعلاقة الإنسانية المنزهة عن المنافع رغم اختلاف وجهات نظرنا في الكثير مما يحيط حياتنا من مشكلات مستعصية وضغوطات معيشية وخسائر فادحة لم تستطع مجتمعة ان تفك من اواصر لحمتنا الرائعة ,وكنت وما زلت من المعجبين والمواظبين على قراءة نصوصه المشاكسة وطرح الاسئلة حول مقاصدها من خلال نشر انطباعات عنها في هذه الصحيفة أو تلك ,ولا أفاجأ بـ (جرس الدرس الأخير) نصه المنشور في ثقافية المدى يوم الثلاثاء 21/5/2013 ,الذي أسمعني اياه قبل نشره بأيام قليلة ,هذا النص الصادم حرض اسئلة لا تتوقف وأعادني الى حصيلة ما يقرب من خمسة عقود من زمن الشعر والمودة والأمنيات , ورأيت من حسن الصنيع ان اكتب عنه وفيه هذه السطور تحية واجبة له ولما ينتجه من إبداع مختلف عن هذا السائد المهادن.
ان من يتفحص نصوص الشاعر الكبير موفق محمد يجد انها تنهل من بئر الحرمانات العراقية واوجاع الأيام ومراراتها ,فهي تستفز فينا كوامن خنوعها الخرافي وتحرضنا على السعي لانتزاع ما هو مستلب من حقوقنا والمطالبة باعلى اصواتنا باستحقاقاتنا المشروعة.وبسبب نصوصه المشاكسة والمحرضة هذه اتسعت قاعدة قرائه ((ولانه شاعرنا مصوت ويومي ,تتسع قاعدته بين الناس وعلى مختلف المستويات ,جمهوره متنوع وغفير ليس في مدينته وانما في كل مدن العراق وقراءة قصائده المكتوبة ليست مثل الاستماع اليها ,انه شاعر ساحر.قبعة موفق محمد – ناجح المعموري / دار تموز 2012)) ولأن نصوص الشاعر موفق محمد استطاعت بفعل مهارة منتجها ان تستفز الذائقة الشعبية وتقيم معها جسورا من التواصل والاندماج باستفادتها من المألوف واليومي المتداول فقد حققت بهذا حضورها وأدت وظيفتها وانجزت ما ارادته من تفكيك البنى المتوارثة في الشعر وفي الحياة وصار اليومي المألوف سمتها وعلامتها الفارقة التي ميزتها عن مثيلاتها من النصوص – الذهنية – التي لا جمر فيها , ولا مهادنة تؤطر وتحد من تدفقها وتسديد هيمنتها في الذاكرة الجمعية ,فهي نصوص حارقة تلهب ظهورنا بشواظها وتتلون بانتقالاتها الايقاعية لتضيف لها قدرات مضافة في التأثير والفعل في الملتقي الذي يصغي على الدوام الى اوجاعه التي ينزفها موفق محمد نيابة عنه.. وسنلاحظ في ((جرس الدرس الأخير)) مهارة الشاعر في استثمار كل ما هو يومي لأبلاغ النص ذروة صعوده بعبارات دالة وضاجة على فداحة ما يتعرض له الانسان في هذا الزمن:
أقف الان دقيقة حداد على موفق محمد / بعدها أبدا بالرقص مذبوحا / بالساعات التي تلسع عقاربها في جسدي / فيسيل السم زعافا من عينيّ ومن شفتيّ / ويساقط هذا العمر هباء منشورا... /فينوح حمام هنا ويموت حمام هنالك / والريح تكنس ,ثم تكنس ,ثم تكنسك الحكومة والبلاد.../
في هذا النص يكون الشاعر قد بلغ الخامسة والستين من العمر واحيل على التقاعد من وظيفته كمدرس بعد تمديد سنتين – ولهذا وقف موفق محمد الشاعر دقيقة حداد على موفق محمد المدرس ليرقص مذبوحا من الألم وليبدد العمر هباء ولتتفضل الحكومة بعد الريح بكنسه من الحياة / التدريس فيتحول الى طاقة معطلة بفعل قوانين نافذة لا تمنح المتميزين استثناءات للاستفادة من الخبرات المتراكمة , لذا فان موفق محمد يخاطب طلابه بتوجع:
سأضع برفق كل ما تبقى مني حيا / هنا قريبا من سارية العلم / وأخرج تابوتا يسعى بقدمين الى مقبرة السلام / فكيف سأسحب خمسا وستين سنة من الضيم المعتق / بصدر مكسور الاضلاع / وكيف سأحيا بقلب لا يحفظ اسماءكم ولا ينبض بها / ولا ينتفض كالعصفور حين تمطرونه حياة ومحبة / وماذا سأصنع بعقل لايتقد من اجلكم......../......../ وماذا سأفعل بيد لا تشير اليكم / واصابع لا تمسك الطباشير/لتجر لكم المستقبل من ليل السبورات / الذي لفنا طويلا.......... /
ان ((جرس الدرس الأخير)) نص تراجيدي بكل ما فيه من صور صادمة ,وهو مرثية عمر طويل من الحياة المنتجة والنابضة بالعلم الذي أقصته القوانين النافذة وجعلت من واهبه طاقة لا حياة فيها ولها.. ومن هنا تأتي لوعة موفق محمد واوجاعه وهو الذي منح طلابه حياته كلها مدرسا متميزا وأخا كبيرا وصديقا مخلصا , وهل جزاء الاحسان الا الاحسان يا موفق يا بن بدراي؟ وهل هذا كل ما تبقى منك؟
.. على شاهدة سوداء كالليل / لم يبق من موفق محمد شئ لم تأكله المقطات / لم يبق من قلم الرصاص سوى الممحاة البيضاء التي في رأسه / أهذا ما تبقى لي أيتها الحكومة /  (بالكبر وادعي اعليج) / فحين أنظر في المرآة / أرى شبحا اعرفه / اترى يعرفني هو الآن؟ /
وهكذا تنتهي الرحلة الخاسرة , رحلة موفق محمد مع مهنته المحببة ((التدريس)) الذي اصبح بفضلها مثل قلم الرصاص بممحاة بيضاء في الرأس , وهذا هو واقع موفق محمد الان بعد اربعة عقود في تدريس العربية لغته التي كتب فيها أروع قصائده.. وأخيرا لا بد من الاشارة الى ان موفق محمد يظل من ابرز شعراء العراق على امتداد هذه الحقبة الضاجة والمحتشدة بالاسماء الكثيرة ولانه شاعر مقتدر فقد استحق كل هذا الانتشار والاهتمام والخلود في قلوب قرائه ومستمعيه , رغم ضجيج جرس الدرس الأخيــــــــــر.                                               

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. وسام الركابي

    شخصية كبيرة ، وقامة فارعة ، و(معلّم) بارع ومحبوب مثل الأستاذ موفق محمد لا ينبغي أن تقف قوانين الدنيا كلها في وجه إسعاده وإرضائه كما يليق به .. المفروض أن تطالب مديرية تربية بابل بإعطائه كرسيّاً شرفياً يستحدث خصيصاً له يمكنه من التجوال في أروقة معاهد العلم

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مدخل لدراسة الوعي

شخصيات أغنت عصرنا .. المعمار الدنماركي أوتسن

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

د. صبيح كلش: لوحاتي تجسّد آلام الإنسان العراقي وتستحضر قضاياه

في مديح الكُتب المملة

مقالات ذات صلة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع
عام

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

علي بدركانت مارلين مونرو، رمزاَ أبدياً لجمال غريب وأنوثة لا تقهر، لكن حياتها الشخصية قصة مختلفة تمامًا. في العام 1956، قررت مارلين أن تبتعد عن عالم هوليوود قليلاً، وتتزوج من آرثر ميلر، الكاتب المسرحي...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram