اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > المدى الثقافي > الشعر وصغار العقارب

الشعر وصغار العقارب

نشر في: 1 نوفمبر, 2009: 05:02 م

صلاح نيازي في رواية جيمس جويس "صورة الفنّان في شبابه"" يفتح ستيفن ديدالوس كتاب الجغرافية فيجد آسمه مكتوباً في الورقة البيضاء في أوّل الكتاب، ومعه عنوانه ومدرسته والمقاطعة التي يعيش فيها، وبلده إيرلندا، ثمّ أوروبا، ثمّ العالم، فالكون. قرأ العنوان مرّتيْن: من الأسفل إلى الأعلى، إلى أن وصل إلى آسمه، ومرّةً من الأعلى إلى الأسفل.
خطرتْ بباله فكرة: " ماذا بعد الكون؟ لا شئ يبين حول الكون ، أين ينتهي قبل أن يبدأ المكان العدم؟ … إنّه لأمرٌ جسيم للغاية أن نفكّر في كلّ شيء ، وفي كلّ مكان. الله وحده قادر على ذلك". لكنْ هل وجد ستيفن ديدالوس بعد أن بلغ سنّ الرشد، وأصبح بطلاً بنفس الآسم في رواية يوليسيس جواباً وافياً مطمئناً؟ أم أنّ السؤال اتخذ صيغة متكررة أخرى على شكل بحثٍ عقليٍّ متواصل؟ أم آنّه اتخذ صوت بابلو نيرودا صائحاً: أنا لا أعرف شيئاً قطّ. أم أنه مثل نيرودا كذلك، سيجعل العالم حلوى ليكون ممتعاً، أم مثله عليه تغيير طبيعة الأشياء فيتصوّر "الشمس تنمو من بذرة إلى بهائها الضروري"؟. ربما سيقع آختيار ديدالوس على قصيدة "شرفة"، لبودلير ليرى من خلالها العالم. العاشقان في الشرفة. الظلام يقرّبهما ويخفيهما. عطر الأنوثة بالذات مذوّب للحس. تتورّم خلايا الجسد وتسخن. الحواسّ متنمّلة مخدّرة بأعمق انخطاف ونرفانا. انصهرت الحواسّ جميعاً فأصبحتْ حاسّة واحدة أشدّ وأكبر. ربما مهارة بودلير في تكثيف الحواسّ بهذه الصورة هي التي جعلت هذه القصيدة ممغنطة. إنها مسكونة. ** "أعرف فنّ استعادة اللحظات السعيدة وكيف أعيش الماضي ثانية حينما أستكنّ على ركبتيْك". هذا بالضبط ما طلبه هاملت من أوفيليا. ولكنْ قبل ذلك كان بودلير يصوّر ليلاً ليّناً كنهر، وكأنه ينأى بنفسه بحيلة الظلام إلى عزلة ليتمتّع بنشوة حسّية منغلقة على نفسها. تفرّغ الشاعر إلى حبيبته. راح يشرب أنفاسها. هكذا قال: أشرب أنفاسها.(حاسة الذوق بدلاً من حاسة الشمّ)، بودلير يشرب أنفاس معشوقته. شرب ثمّ خاطبها :"أنتِ السمّ". كيف جاء السمّ؟ ولماذا جاء توقيته بعد الأنفاس، وبعد تكاثف الظلام؟ هل الأنفاس نفثة، والسمّ أفعى؟ لماذا لا تبلغ نشوتنا ذروتها إلاّ إذا كانت محفوفة بالخطر؟. إلاّ إذا كانت محرّمة؟ أحبّ ج. هـ. لورنس أفعواناً يشرب ماء من حوض. بدا جليلاً. يمتصّ نغبة من الماء ويرفع رأسه إلى السماء.حركة سامية، كأنها نغم . أحبه لوناً وحركة، وكرامة. فلماذا ضربه بلوح خشب؟ أيّة عقيدة صدئة قابعة في أحد فصوص دماغه دفعته إلى ذلك؟ فعل انعكاسي ناجم من أزمنة دينية سحيقة. يقول لورنس: "وعلى الفور ندمتُ فكّرتُ كم كان عملي خسيساً ودنيئاً أحتقر نفسي، وأصوات تربيتي اللعينة فكّرت بطائر القطرس وتمنيتُ لو عاد أفعواني". لماذا يرتبط الجنس بالأفعوان؟ صوت سحيق من أعماق التأريخ ترسّب في عقولنا. لا نستسيغ الحلاوة خشية عاقبة المرارة. تفسد علينا "المانوية"، لذّة "حدائق النور" خشاة شرّ متربّص فيها. كذا انحدرت إلينا اللذة بصيغة مصيدة. اللّذة في مرويّاتنا مصيدة. الطفلة "ألس في أرض العجائب" مثل الطفل ستيفن ديدالوس. عالمها مدهش لأنه لم يكتشفْ بعدُ. لأنه لم يطأْه التأريخ بعد، وينصب مصيدته فيه. التاريخ أكبر المصايد طرّاً. يعرقل العفوية. لكنْ لا بدّ لألس من أن تكبر، وتخرج كحوّاء من حدائق النور مرغمة. في كلّ نفسٍ بشرية ثمة "ألس"، نفتش عنها، مثل جنّة مفقودة. تعيس ذلك الشاعر الأعمى "ملتن" لأنّه تصوّر جنته في مكان خارج كينونته. لا بدّ لستيفن ديدالوس، أيضاً من أن يكبر. محنته موروثة، مترسبة. للتأريخ سبعة أرواح يعود ويعود ويعود. التأريخ أكبر المصايد طرّاً. يحتّم التأريخ على ديدالوس الانتماء. كأنْ لا تكتمل كينونته إلاّ إذا انتمى.إلى فئة، إلى حزب، إلى راية مصبوغة بالدين. ستيفن ديدالوس بين فريقين متحاربين. الأرض والسماء بكلّ أقواس قزحها تقلّصت إلى لونين متخندقين.. اللون الأحمر، واللون الأخضر. التاريخ إذا دخل الألوان كارثة حقّاً. الأخضر والأحمر يتعاضضان. كالوحوش. يتخالبان ويتعاضضان. كالوحوش. أمام ستيفن ديدلوس الآن صورة للكرة الأرضية، ملوّنة بالأخضر، وغيوم ملوّنة بالأرجواني: " نظر ببرم إلى الكتلة الكروية الخضراء في وسط الغيوم الأرجوانية. تساءل أيّهما الصواب، فريق اللون الأخضر، أم فريق اللون الأرجواني.. تألّم لأنّه لا يعرف ما تعنيه السياسة ولا أين ينتهي الكون. شعر أنّه ضئيل وضعيف". لكن عليه أن يختار، مهما طالت حيرته. لا استقلال عن التأريخ. التأريخ أكبر المصايد طرّاً. إمّا هذا أو ذاك. إما أخضر، وإما أرجواني، خلت الدنيا من كلّ لون آخر. معسكران متذابحان من قديم الزمان. يقول شاعر روسي :" في كلّ انتصار، وفي كلّ اندحار، لا بدّ من آمرأةٍ تبكي". الشاعر العظيم آمرأة تبكي في كلّ انتصار وفي كلّ اندحار. الشاعر العظيم يبكي في كلّ انتصار وفي كلّ اندحار. ماذا لو تُرِك ستيفن ديدالوس وشأنه، فما الذي يمكن أن يصنعه بهذين اللونين؟ حقولاً مترفة من الغيوم والأزهار، آفاقاً متوردة بالأصائل والأسحار، بيوتاً آمنة كالأعشاش، جداول فرحة وظلالاً مرحة. يمكنه م

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

طقس العراق.. أجواء صحوة وانخفاض في دراجات الحرارة

أسعار صرف الدولار تستقر في بغداد

تنفيذ أوامر قبض بحق موظفين في كهرباء واسط لاختلاسهما مبالغ مالية

إطلاق تطبيق إلكتروني لمتقاعدي العراق

"في 24 ساعة".. حملة كامالا هاريس تجمع 81 مليون دولار

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

في استفتاء موسيقي تنافسي سنوي حصلت إسطوانة “أصابع بابلية” للمؤلف الموسيقي وعازف العود العراقي أحمد مختار على مرتبة ضمن العشر الأوائل في بريطانيا وأميركا، حيث قام راديو “أف أم للموسيقى الكلاسيكية” الذي يبث من...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram