يبدو احتجاج الحكومة العراقية على وصول طلائع عناصر القوات الكردية من تركيا إلى إقليم كردستان العراق، هامشياً، وبغير تأثير يتناسب مع حجم المبادرة السلمية العملية الأولى منذ قرنين استعر فيهما الصراع بين القوميتين التركية والكردية، الاولى وهي تتمسك بسياسات التهميش والانكار والثانية وهي تؤمن بحقها في تحقيق هويتها الذاتية سواء بالحرب أو مفاوضات السلام، ودفع الحانبان أثماناً غالية من الدماء لتحقيق الهدف الذي تيقّن الجانبان مؤخراً من استحالة بلوغه، فاتجها اليوم لتهيئة الرأي العام التركي والكردي للسلام واتخذا خطوات تطبيعية، منها إعادة المهجرين الكرد إلى المواقع التي أجبرتهم الحرب على مغادرتها، وإعادة الخدمات إليها وفتح المدارس وإلغاء المظاهر الأمنية والعسكرية التي كانت سائدة ولو بشكل تدريجي.
أوقفت تركيا تجنيد مليشيات "حماة القرى"، وباشرت اللجنة البرلمانية نشاطها فزارت جنوب إفريقيا وبريطانيا للاطلاع على تجربتهما في الحل السياسي السلمي، فيما تعد الجهات المعنية خريطة طريق، للانتقال إلى المرحلة السياسية، وتتضمن تعديل بعض المواد الدستورية المتعلقة بقوانين الأحزاب والانتخاب والمواطنة والحكم المحلي، وخصوصا القانون باستيعاب المقاتلين الكرد بعد عودتهم المتوقعة إلى ديارهم قبل نهاية هذا العام، ليشهدوا ولادة دستور جديد يعترف بهويتهم القومية، ما يعني الحكم الذاتي واعتماد لغتهم رسمياً، وليعلنوا بعدها مع زغيمهم المحررعبد الله أوجلان، التخلي عن السلاح نهائيا والانخراط في الحياة السياسية العامة، والتفرغ للبناء الذي تأخر طويلا على وقع قرقعة السلاح.
لايعني ذلك أن العملية التاريخية ستمضي دون عقبات، فالقوميون المتطرفون يرون فيها تقسيما لتركيا ويرفضونها بالمطلق، وورثة أتاتورك يضعون شروطهم على موائد التفاوض قبل انطلاقها، والخلافات بين أنقره وأوجلان ما تزال ماثلة ومنها توقيت تخلي حزب العمال الكردستاني عن سلاحه، إضافة إلى مصير الملطخة أياديهم بالدم حيث تقترح تركيا تأمين لجوء سياسي لهم خارج حدودها ويشترط الحزب عودة جميع عناصره إلى البلاد مطالباً بعفو عام يسمح لهم بالنشاط السياسي وليس آخراً خلافات الجانبين بشأن نوعية الحكم المحلي وصلاحياته وطريقة إدارته، وفي حال إضافة العامل الإقليمي، ومخاوف ايران وسوريا من تأثير ذلك على وضع الكرد في الدولتين ورفض بغداد لتمركز المقاتلين الكرد في إقليم كردستان العراق باعتباره جزءا من الدولة العراقية، نستطيع تبين حجم الضغوط التي سيتعرض لها الجانبان للوصول باتفاقهم الى غايته.
ليس صحيحاً القول إن قطار السلام الكردي التركي يتحرك بدفع من أوجلان وأردوغان وحدهما، الواقع أن طموحات الشعبين هي من يحرك الرجلين وليس العكس، صحيح أن لكل منهما مصلحة شخصية في التوصل الى السلام لكن المؤكد أن تلك المصلحة ليست الدافع الوحيد، المهم أن اوجلان يستغل شعبيته ورمزيته عند بني قوميته، ويتقبل شعبه ذلك حيث تتحول توصياته إلى أوامر مطاعة من حزبه وأبناء شعبه لايمانهم أن مصلحتهم تتقدم عنده على كل ماعداها، المهم أيضاً في الجهة الأخرى أن أردوغان الذي قلب وجه تركيا خلال أقل من عقد من الزمن وحولها إلى دولة مؤثرة إقليمياً وناهضة اقتصادياً فامتلك مفاتيح السياسة والأمن في بلاده من خلال سيطرة حزبه على الرئاسات الثلاث، ونجاحه في إبعاد الجيش عن الحلبة السياسية، وهكذا تتضافر جهود الرجلين في سعيهما لإيجاد حل سياسي للقضية الكردية، يدخلان به التاريخ من أوسع أبوابه.