TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > مائدة الجماهير

مائدة الجماهير

نشر في: 26 مايو, 2013: 10:01 م

ينظر المثقف، عادة، إلى الجمهور الثائر، كما ينظر فقير إلى مائدة دسمة ولا يستطيع حتى التفكير بالاقتراب منها، فالجماهير عندما تتجمَّع وتذوب في هياج عارم لا يستطيع أحد السيطرة عليها، باستثناء قادتها ممن تنسجم معهم عقائدياً أو تقاليدياً أو في بعض الأحيان طبقياً. ويخطئ المثقف إذا أراد أن يؤثر على جماهير غاضبة أو خائفة، بخطاب عقلاني هادئ؛ لأنها وهي هائجة لا تسمع ولا ترى بشكل طبيعي، بل هي تغادر منطقة الوعي إلى منطقة يتوقف فيها وعيها، حيث هناك من يسمع ويرى ويقرر بالنيابة عنها. هي تسمع ما يسمعه قائدها وترى ما يراه، أما من يكون هذا القائد، فليس مهما، المهم أن لا يكون مثقفاً ملتزماً بقضاياها، ومخلصاً لهدف إنقاذها. وكأن الجماهير تعاني من حساسية تاريخية من هذا المثقف!!
قبل أيام جمعتني مع أحد اقاربي، ممن اختلفت معهم بعد أحداث 2003، مناسبة اجتماعية، إذ اندرج هو في مدارج الهياج العام، بينما بقيت أنا أراقب من بعيد هذا الهياج. وكان قريبي يختلف بشكل جذري مع كل ما اطرحه! خاصَّة عندما كنت أدافع عن الاشتراك بالعملية السياسية أمامه، أو أهاجم حمله للسلاح وانخراطه في الميليشيات المسلحة. وكان هو بالمقابل، يتهمني بالانسياق مع الأجندات الخارجية التي تتآمر على "الأمة وعلى ملتها".
المهم، التقينا بعد انقطاع طويل، وإذا بصديقي يدافع عن ذات القضايا التي كان يختلف معي حولها، استمعت له طويلاً ولم اقاطعه، لأنني كنت أشفق على نفسي وعليه، على نفسي لأنني أردت فيما مضى أن ابيعه سلعاً كان يجدها بائرة، وعليه لأنه عاد لشراء نفس السلع لكن بعد أن أصبح ثمنها باهظاً جداً. والسبب، كما يبدو، أن القادة الذين ينوبون عنه في التفكير، ممن كانوا يمنعونه من شراء بضاعتي، دخلوا العملية السياسية من أوسع أبوابها، وصار عليهم أن يبرروا هذا الدخول، ومن هنا فقد اضطروا لعرض وبيع البضائع "الممنوعة"، فاشتراها قريبي دون أن يسأل نفسه عن جدوى دوامة الدم التي ادخله فيها مانعي بضاعة العملية السياسية السابقين وبائعيها الحاليين.
المحزن أن هناك مائدة ممدودة هذه الأيام، مائدة جماهير تقام على شرف القادة، الذين سيأكلون من جهد الجماهير وهتافاتها وقتالها وتضحياتها، وسينعمون بجميع امتيازات قيادتها، ويوجهون سفينتها إلى حيث مرفأ مصالحهم وغاياتهم. مائدة الجماهير الممدودة هذه الأيام مُحرَّمة أيضاً على المخلصين، ليس لأنهم لا يملكون أدوات التواصل مع الحشود الهائجة، لكن لأن هذه الأخيرة لا تسمع وتتبع إلا لأسياد لا يجيدون غير فن استثمار عرق العبيد.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: برلمان كولومبيا يسخر منا

العمودالثامن: في محبة فيروز

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

العمودالثامن: في محبة فيروز

 علي حسين اسمحوا لي اليوم أن أترك هموم بلاد الرافدين التي تعيش مرحلة انتصار محمود المشهداني وعودته سالما غانما الى كرسي رئاسة البرلمان لكي يبدا تطبيق نظريته في " التفليش " ، وأخصص...
علي حسين

قناديل: (قطّة شرودنغر) وألاعيب الفنتازيا

 لطفية الدليمي العلمُ منطقة اشتغال مليئة بالسحر؛ لكن أيُّ سحر هذا؟ هو سحرٌ متسربلٌ بكناية إستعارية أو مجازية. نقول مثلاً عن قطعة بديعة من الكتابة البليغة (إنّها السحر الحلال). هكذا هو الأمر مع...
لطفية الدليمي

قناطر: أثرُ الطبيعة في حياة وشعر الخَصيبيِّين*

طالب عبد العزيز أنا مخلوق يحبُّ المطر بكل ما فيه، وأعشق الطبيعة حدَّ الجنون، لذا كانت الآلهةُ قد ترفقت بي يوم التاسع عشر من تشرين الثاني، لتكون مناسبة كتابة الورقة هذه هي الاجمل. أكتب...
طالب عبد العزيز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

إياد العنبر لم تتفق الطبقة الحاكمة مع الجمهور إلا بوجود خلل في نظام الحكم السياسي بالعراق الذي تشكل بعد 2003. لكن هذا الاتفاق لا يصمد كثيرا أمام التفاصيل، فالجمهور ينتقد السياسيين والأحزاب والانتخابات والبرلمان...
اياد العنبر
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram