شكل فن المسرح ذاكرة من التراكم المعرفي الذي إرتبط حضوره الأول بالطقوس الدينية التي كانت تقام للإحتفال بالالهة، ومن هذا المنطلق تاسست فرضيات التشارك بين المسرح و المجتمع ، وقد أنتجت هذه الشراكة حضارات معرفية وجمالية، لم تزل حاضرة في الوعي الإنساني؛ وع
شكل فن المسرح ذاكرة من التراكم المعرفي الذي إرتبط حضوره الأول بالطقوس الدينية التي كانت تقام للإحتفال بالالهة، ومن هذا المنطلق تاسست فرضيات التشارك بين المسرح و المجتمع ، وقد أنتجت هذه الشراكة حضارات معرفية وجمالية، لم تزل حاضرة في الوعي الإنساني؛ وعلى الرغم من إختلاف المعطيات الفكرية التي تناولتها تلك الحضارات إلا أنها أسهمت في تطوير البنية المسرحية التي تمثلت إبتداءً في الاشتغال على تقديم الاساطير والملاحم كما هو الحال مع كتاب الدراما الاغريقية الذين عملوا على تحويلها إلى نصوص درامية لم تزل منتجة في المنجز المسرحي المعاصر
وقد تمثل ذلك من خلال التجارب المسرحية المعاصرة التي تلجأ إلى إعادة انتاج المتن النصي الكلاسيكي، سواء على مستوى الرؤية البصرية كما هو الحال في العروض السرحية التي يغادر صانعوها الشكل التقليدي للعرض المسرحي مستفيدين من طروحات التجريب وحداثة الرؤية الإخراجية ، أو على مستوى إعادة إنتاج النص الدرامي من خلال الاشتغال على مفهوم (التناص) الذي إنسجمت طروحاته مع طروحات عدد من الكتاب الذين عملوا على الإفادة من النصوص التي تمتلك حضوراً في وعي المتلقي وذاكرته الجمالية ، فضلا عن ذلك فأن الاشتغال النقدي الذي يعتمد المناهج النقدية الحديثة إسلوباً في قراءة المنجز النصي الكلاسيكي بمعزل عن إقتراحات المؤلف؛ منح تلك النصوص خاصية التجديد من خلال القراءات النقدية المنتجة لمفاهيم فلسفية جديدة والتي نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، كتاب (أوديب وأساطيره) الذي يعُد قراءة معاصرة لمسرحية (أوديب ملكاً) التي كتبها (سوفوكليس) إلا أن تلك القراءة النقدية الجديدة منحت المتلقي فرصاً متعددة في إعادة إنتاج (الاسطورة / النص) على مستويات المضمون والشكل ، الأمر الذي جعل المتن النقدي المعاصر فاعلاً في إنتاج فرضيات نصية تشكل حضورها اللافت في إنجاز عروض مسرحية تمتلك القدرة على الانسجام مع المجتمع المعاصر وهمومه اليومية كما إمتلك نص (اوديب/سوفوكليس) فاعليته في المجتمع الاغريقي قديماً.
ولم يقف إرتباط المسرح بالمجتمع عند الاغريق فحسب بل إن فاعلية المسرح الاجتماعية باتت تشكل فكرة أساسية في طروحات المتن النصي ، كما هو الحال في نصوص الكاتب النرويجي (هنريك أبسن) التي إستطاع من خلالها ترجمة قضايا المجتمع وبخاصة مسرحية (بيت الدمية) التي تمكن من خلالها الإطاحة بالقوانين السابقة التي تحرم على المرأة أبسط حقوقها الأنسانية .
وفي المسرح الحديث إختلفت علاقة المسرح بالمجتمع وذلك بإختلاف الهموم الاجتماعية التي تقف في مقدمتها الحروب التي أطاحت بالعديد من القيم الاجتماعية وإنتهاك حقوق الانسان، الأمر الذي كشف عن نوع مختلف من المسرح الذي يتشارك مع المجتمع عن طريق تحريضه على رفض الواقع ، وقد تمثل ذلك في تجارب كل من (بيسكاتور، وبرتولد بريخت) حيث إختار (بيسكاتور) تأسيس (المسرح الوثائقي) الذي يعتمد على الوثيقة التي يكشف من خلالها عيوب المجتمع الذي تهيمن عليه السلطة المنتجة للحرب ، ولم يكن ( بريخت) بعيداً عن ذلك التوجه إلا أنه كان أكثر تنظيماً وقد بدا ذلك واضحاَ من خلال إعتماده على النظرية الماركسية والعمل على تطبيقها في تجاربه المسرحية على حد سواء ، فضلاَ عن توظيفه للتأريخ وإعادة إنتاج النصوص التأريخية من وجهة نظر تنسجم مع قضايا المجتمع كما في مسرحيات (دائرة الطباشير القوقازية ، و أنتيجون ..وغيرها).
لقد كان للحرب العالمية الثانية تأثيرها الواضح على المجتمعات الاوروبية ،الأمر الذي جعل المسرح يتفاعل مع تلك التأثيرات من اجل البحث عن سبل التواصل مع المتلقي فما كان منه إلا أن بدأ بإنتاج مسرحيات ترفض الحرب وتعيد إلى الانسان حضوره في المجتمع ، وقد إشتركت الفلسفة الغربية في إعادة بناء الانسان والعمل على تخليصه من المعتقدات التي كان متمسكاً بها ، لتظهر مفاهيم فلسفية جديدة تعد الفلسفة (الوجودية) وتجارب مسرح (اللامعقول) من أبرزها، ذلك انها غيرت من البنية التقليدية للدراما عن طريق إستخدام تقنيات جديدة على مستوى بنية النص ومضامينه التي بدت متقاربة لكونها تعالج قضايا الانسان الذي أطاحت الحرب به ، ولم يكن الشكل المسرحي بعيدا عن تلك المضامين ، إذ يعد الكاتب الأيرلندي (صاموئيل بيكيت) من أبرز المشتغلين في مسرح (اللامعقول) وبخاصة في مسرحية (إنتظار غودو) التي حققت حضوراً فاعلاً جعلت الكثير من كتاب الدراما يسلكون الطريق ذاته في مناقشة قضايا المجتمع عن طريق المواجهة القاسية لتلك الهموم ، كما أن (بيكيت) عمل على تطوير تقنيات العرض المسرحي من خلال العمل على إختزال المفردات والاكسسوارات حتى انه لجأ في مسرحيته المعروفة بإسم ( نَفَسْ) إلى إلغاء الممثل والعمل على تحويله إلى أصوات وهمهمات وصرخات ، وقد دفعت هذه العروض إلى إنتاج شكل جديد من المسرح يعيد للمتلقي تفاعله مع العرض المسرحي وقد تجلى ذلك من خلال توجه عدد من المخرجين إلى توظيف العادات والتقاليد المتوافرة في الطقوس الشرقية، والذين يقف في مقدمتهم (انطوان ارتو) الذي أفاد من الرقصات التي كانت تقدم في (جزر بالي ) في (أندونيسيا) ، لتبدأ مرحلة جديدة من العروض المسرحية التي إعتمدت على الشكل البصري الذي يختلف عن المضمون التقليدي ، وقد بدا ذلك واضحاً في تجارب (بيتر بروك) وبخاصة أخراجه للملحمة الهندية (المهابهارتا) والتي عاد بها إلى الطقوس البدائية للانسان مستفيداً من العناصر الاساسية المتمثلة بـ(التراب –الماء –الهواء – النار) ، وهو بذلك يكون قد إتجه إلى مجتمعات جديدة من أجل الكشف عن المعاني المضمرة في تلك الاساطير والملاحم والعمل على تحويلها إلى معانٍ تمتلك القدرة على توليد دلالات جديدة تسهم في تفاعل المتلقي معها، وقد عمل العديد من المخرجين على تطوير التجربة المسرحية الأوروبية، ويقف في مقدمتهم كل من (غروتوفسكي) وتلميذه (ايوجينو باربا) الذين حاول كل منهما تطوير مفهوم جديد للتعامل مع المجتمع ، إذ إقتصر إشتغال الاول (غروتوفسكي) على توظيف الجسد الانساني في التعبير عن الافكار والعمل على إختزال الادوات والاكسسوارات إلى العناصر الاساسية فقط والعمل على تجريد العرض المسرحي من الاضاءة والديكور ليكون الحضور الابرز للممثل فحسب وقد أطلق على مسرحه تسمية (المسرح الفقير) تعبيراً عن طروحاته الفكرية التي يلعب الممثل فيها دوراً أساسياً ، أما الثاني (إيوجينو باربا) فقد إختار التوسع في التفاعل مع المجتمعات والعمل على خلق مسرح مختلف أطلق عليه تسمية (المسرح الثالث) وهو شكل مسرحي يجمع فيه بين ثقافات متعددة في محاولة للوصول إلى ثقافة جديدة هي نتاج تلك الثقافات ، مستفيداً من مقولات العولمة في تحويل العالم إلى قرية صغيرة على الرغم من أن تلك المقولة تحيل المجتمعات وبخاصة المجتمعات العربية إلى مستهلك للمنتجات التي تطرحها الدول المهيمنة على العالم والتي تقف في مقدمتها (الولايات المتحدة الامريكية ) إلا أن مفهوم الثقافة بات أكثر تفاعلا مع المجتمعات بما تمتلك من أشكال ومضامين لم يتم توظيفها في عروض مسرحية.