أول خطاب ألقاه غابريل غارسيا ماركيز كان عندما كان له من العمر سبعة عشر عاماً، أما آخر خطاب فكان قبل ست سنوات، عندما كان قد أكمل للتو 80 عاماً. الخطاب الأول الذي كان موضوعه الصداقة ألقاه عام 1944 في مدرسة ثانوية البنين في مدينة زيباكيرا الكولومبية، حيث الشاب ماركيز الذي سيصبح في المستقبل كاتباً مشهوراً أنهى للتو دارسة البكالوريا، أما الخطاب الأخير الذي ألقاه ماركيز في الحفل الخاص في قصر المؤتمرات في قرطاجة الهنديات في كولومبيا وفي إطار المؤتمر الرابع للغة القشتالتية (الكاستيانية) الذي كان مناسبة أيضاً لإطلاق طبعة خاصة من رواية ماركيز "مئة عام من العزلة" بمليون نسخة. في الخطاب الأول كان حاضراً نفر من زملائه الطلاب الذين سيصبح بعضهم بعدها مشهوراً (وإن ليس بشهرة ماركيز)، أما في الثاني فقد كان حاضراً 1500 مدعواً من الشخصيات المهمة في العالم، حرسهم في خارج القاعة 2300 شرطياً، ومن بين الحاضرين كان ملك اسبانيا خوان كارلوس وزوجته، الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون ورئيس كولومبيا السابق ألفرو أوريبه.
" لم آت لكي ألقي عليكم خطاباً"، قال ماركيز لزملائه في مناسبة خطابه الأول في تلك السنة التي أصبحت غابرة الآن، بنبرة ساخرة لم تخلُ من نزق المراهق الذي كانه، وهي الجملة هذه وليس غيرها التي اختارها صاحب النوبل بالذات لكي تكون عنوان كتاب يحوي على اثنين وعشرين خطاباً ومحاضرات لكتابه الذي حمل نفس العنوان.
من كلمته المشهورة بمناسبة تسلمه جائزة نوبل عام 1982 في استوكهولم إلى الإشكالية التي دعا فيها إلى تقاعد اللغة القشتالتية في زاكاتيساس في المكسيك عام 1997، يحوي الكتاب على مختارات متنوعة لشغف صاحب "الحب في زمن الكوليرا" في مختلف المجالات التي كتب عنها وهي عديدة، تبدأ بالسينما وتمر بالسياسة والصداقة، وتنتهي بأميركا اللاتينية وطبعاً بالأدب. أغلب مداخلاته الأولى، كما هي الحال في مداخلة له عام 1972 في فنزويلا بمناسبة تسلمه جائزة رومولو غايغوس، تبدأ بالاعتراف بشيء غير قابل للتعويض، وإن ظن البعض العكس ، وهو يعني "تسلم جائزة وإلقاء خطاب".
"وظيفة الكاتب ربما هي الوظيفة الوحيدة التي تبدأ صعوبتها عند ممارستها"، هذا ما قاله ماركيز في كاراكاس في عام 1970، عندما كان "سعيداً وغير مشهوراً"، في مؤتمر تحت عنوان "كيف بدأت بالكتابة". في تلك المناسبة تحدث ماركيز عن قصته الأولى، كيف إنه كتبها وكان هدفه أن تكون في النهاية رداً على صحفي كولومبي صرح بأن القصاصين الشباب في كولومبيا ليس عندهم ما يقولونه. الكلمة تلك، كما صرح للصحفيين يوري كريستوف بيرا، المسؤول عن تحرير كتاب ماركيز الجديد، أنقذتها مارغريتا ماركيز ابنة عم الكاتب من النسيان، من "أرشيف" العائلة: "عندما قرأ غابو النص، قال هذا ما كتبته أنا بالضبط، أنا متأكد".
بعد أربعين عاماً من ذلك التاريخ تقريباً، وأمام جمع غير من الشخصيات المهمة تلك في مدينة قرطاجة الهنديات، ألقى غارسيا ماركيز أمام الحضور بتلك الفرضية التي لا تخلو من الطرافة والتي تقول، بأن "إذا عاش 50 مليون من قراء مئة عام من العزلة مع بعض إلى ذلك الحين في عام 2007، إذا عاشوا معا، فإنهم سيشكلون نفوس أحد بلدان العالم الكثيفة السكان."، وأن ما يقوله "ليس له علاقة بالتفاخر"- بقدر ما له علاقة بالإحصائيات.
في خطابه بمناسبة تسلمه للنوبل لم ينس غارسيا ماركيز من التذكير بأستاذه الذي تعلم الكتابة منه، الأميركي وليم فوكنر، ببابلو نيرودا وتوماس مان، ثلاثتهم حصلوا على النوبل مثله، لكن كلماتهم كانت سياسية بالقدر نفسه الذي كانت فيه أدبية، "لأن الأصالة التي تستسلم لنا في الأدب وبدون تحفظ تمتنع عنا وبكل أنواع سوء الظن في كل محاولاتنا الصعبة بتصور شكل محدد للتحول الاجتماعي؟"
يتبع
ماركيز الذي لم يأت لكي يلقي خطاباً
[post-views]
نشر في: 28 مايو, 2013: 10:01 م