يكتب ابن خلدون في موسوعته الكبيرة " المقدمة " عن نفسية الجماهير " فاز المحبون للأوطان " وهم البسطاء، كما يصفهم أمير الحرية عبد الرحمن الكواكبي.. تعلي الجماهير شأن من تحب، ولكنها أيضا تخسف الأرض بمن تكره وفي هذا المورد تذكرت أريك فروم الذي طالما أعود إليه وأنا أقرأ تعليقات البعض حول المتسابقة " برواس حسين " فقد كتب أحد الإعلاميين العراقيين على صفحته في الفيسبوك يعيب على إدارة المهرجان قبول متسابقة كردية في برنامج اسمه عرب آيدل،فيما آخر حيا موقف المطربة أحلام لأنها جادلت في موضوعة " إقليم كردستان العراق ".. وأنا أقرأ هذه التعليقات تذكرت ما كتبه فروم عن نفسية " الجماهير " وتوقفت كثيرا عند مقولته الشهيرة ان " الجماهير أزرار لا أعداد " وهو يخبرنا بأن الجماهير لا تسير خلف الاسم العادي... وقال عبد الرحمن الكواكبي:" إن الناس أسرى لقناعتها " ورأى ان التعصب هو أساس الاستبداد.. "فالناس عصبيات صغيرة وهشيم سريع الاشتعال " ولعل اخطر ما تبتلي به الاوطان ان تصبح الطائفية والعنصرية جزء من تاريخها اليومي.. قبل أيام كنت أنظر إلى وجه " الكردية " برواس حسين وهي تبكي لأن متسابقا من بلادها العراق فشل في الوصول إلى مراحل متقدمة.. كنت أنظر إلى دموع برواس وأنا أقول لصديق متحديا ان يجد سياسيا يحب العراق مثل هذه الفتاة، فيما قال لي شاب أعرفه انه لم يستطع صبرا حتى يصل البيت ليتابع ابنة بلده على حد قوله، فأجبر أصدقاءه على ان يجلسوا في المقهى ليتابعوا برواس وهي ترسم حروف اسم العراق من على شاشات الفضائيات.. وأضاف الشاب،حين جلست في المقهى كانت عيون الجميع تلمع مع عيون برواس بدمع واحد، لا فرق بين ما تراه في عيني شاب يسكن مدينة الصدر، وعيني آخر جاء من الأعظمية.
الجميع يتنفسون نفسا واحدا مع تصاعد وتيرة البرنامج، وكأنهم في مهمة وطنية يستمعون إلى معزوفة " موطني " فتلمع عيونهم بالشجن.. حتى يُخيل للناظر إليهم انهم يكتشفون معنى المواطنة للمرة الأولى، أو يكتشفون العراق الكبير الذي يريد له زعماء الطوائف ان يظل تحت ركام الفساد والانتهازية والطائفية المقيتة والمعارك السياسية السيئة السمعة.
لم يسلك هذا الشاب مثل كثيرين انتشروا في حياتنا انتشار الوباء، يشتمون الكرد ثلاث مرات يوميا، قبل الأكل وأثناءه وبعده، ويلعنون جدود أهالي الأنبار، والبعض يعتبرون ان الشيعة سبب البلاء، فيما يصر آخرون على تطهير البلاد من "السنة" ويعتبرون وجودهم جريمة.. يستوي في ذلك، إعلامي أصاب القحط مخيلته، فراح يصب اللعنات "العنصرية" ليعيد على أسماعنا مقولات " الحاج خير الله طلفاح صاحب موسوعة "الذباب" الذي اعتبر ذات ليلة ان وجود الكرد على هذه القارة خطأ تاريخي.
ولسوء الحظ فإن مواقع إعلامية ممولة من أحزاب وسياسيين تعج كل يوم بحروب وشحن طائفي يمثل شرارة لحرائق يصرّ بعضهم على إشعالها، ولسوء الحظ نقرأ كل يوم لمسؤولين كبار يدعون إلى حرب ضروس ضد إخوة لنا في الوطن.
يحاول البعض للأسف ان لا يعترف بالآخر، فيما يصر آخرون على عدم الاعتراف بحجم التغيير الهائل الذي يلمسه كل من دخل أبواب إقليم كردستان، حيث قرر أهلها تعويض سنوات الحرمان والمعاناة، بأن قدموا لهم ولأبنائهم وأحفادهم كل ما هو مفيد للناس، والأهم أنهم اختاروا الصوت الخفيض وهم يعملون.، حيث لا وجود لسباق الشعارات والهتافات، السباق الوحيد المسموح به هو سباق الأبنية الحديثة، والمجمعات التجارية والبيوت المضاءة على مدار الساعة، وإشاعة البهجة في النفوس، فيما نحن الجالسين في مدن عراقية أخرى يتسابق مسؤولوها على ممارسة عملية نهب منظم للثروات ولأرواح الناس،،
أنظر إلى برواس وهي تغني لام كلثوم "بعيد عنك" فأتذكر صورة "الست"، وهي تشد على منديلها: "خذ عمري، عمري كله إلا ثواني اشوفك فيها".. وتغني القصيدة لكي تهدر، من كان مثلي لا يذاع له سرّ. "الست" التي صنعت تأريخاً مليئاً بأعذب الألحان وأجمل الكلمات.. اسمع بعيد عنك وانظر إلى وجوه المتابعين لبرواس التي انمحت منها علامات الطائفية والمذهبية.. وجوه تعيد اكتشاف جوهر هذا الشعب.. وجدت نفسي أمام مواطنين يريدون ان ينفضوا عن هذا الوطن غبار الطائفية والمحسوبية والانتهازية، ولعل أجمل ما في هذه الوجوه ان دموع برواس أثبتت لهم أننا شعب لم يتفسخ بعد، رغم سياسة التنكيل والإفساد وشراء الذمم التي مورست خلال السنوات الماضية، شعب لم يفسد رغم محاولات البعض إفساد مناخ الألفة فيه وزرع قيم الطائفية، وبث الفرقة بين أبنائه، وسياسة التخويف والقتل على الهوية، أدهشتني وأفرحتني هذه الاستعادة المبهجة لأصالة ووطنية الشخصية العراقية في لحظة تصور البعض أن أحزاب الطوائف استطاعت أن تحرق مساحات الفرح والخضرة فيها، وهل هناك وطنية أكبر وأنضج من الموقف الذي اتخذنه هذه الشابة " الكردية التي لا تعرف العربية، لكنها حين وقفت تغني لم يذهب خيارها الا إلى أيقونة العرب "أم كلثوم" لتقدمها بإحساس عراقي قل نظيرة، فنشعر بنبرة الصدق تشرق في ملامح وجهها، لا فرق بين عربي وكردي.. فقد استطاعت برواس بصوتها ودموعها أن تختصر المسافة بين أربيل وبغداد التي أراد لها البعض أن تكون جزء من محفوظات "طلفاح".
يا عزيزتي برواس، نحن مدينون لك بالكثير من الفرح والسعادة.. وبحب جارف لهذا الوطن.
دموع برواس.. ومحفوظات "طلفاح"
[post-views]
نشر في: 28 مايو, 2013: 10:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 7
عمار
حيا الله استاذ عله هذا العمود الرائع اشهد بالله اني شعرة بقشعريره وانا اقرأ مقالك .احيانا نكره او نتظاهر باننا نكره هذا البلد ولكن لمناسبة بسيطه مثل فوز الفريق العراقي او ظهور كاظم الساهر مثلا في محفل دولي فان الدموع تنزل لا ايراديا واود ان اذكر بالاحتفال
huda jasim
الاستاذ علي حسين المحترم شكرا لك على هذا المقال الجميل لا تقلق يا اخي فالمسافات مختصرة دوما بين ابناء الشعب دع السياسيين يتخبطون في توسيع المسافات الطائقية والعرقية بينهم نحن برواس بدمعها وجمالها وعراقيتها هي فائزة بقلب كل عراقي لا تقلق ابدا فالمسافة بين
ابن البصرة
الاخ علي حسين مع تحياتي و احترامي اذكر في ايام الحرب العراقية الايرانية كانوا قوات البيشمركة يخفطون الجنود مقابل فدية و لكن عندما يعرفون ان هذا الجندي من اهل البصرة يطلقون سراحه مجانا و لذلك اسباب اهما حسن تعامل اهل البصرو ة الجنوب مع الاكراد لاحساسنا الع
علي سامي
شكرا انه العراق يابى ان يموت انه ليس صناعة خارجية ان اسمه هو التاريخ وبرواس هي اميرة طرب عراقية وانا العاشق اطرب ام كلثوم احسست بطرب غناء برواس ودعوة للتصويت لبرواس حلم عراقي اخضر من رواسي الاشقاء في كردستان نحب العراق ولا لمن يغطي هوية العراق على مزاجه
زامل اللامي
بارك الله فيك ياسيد الكتاب استاذ علي حسين الذي دائما يكشف اين هي الجروح في بدن العراق وماهي دواء علاجها لكن المشكلة تكمن في عدم استعمال هذا الدواء لكن اقول انه مهما حاول سياسيوا الصدفة الذين فرضوا على العراقيين تفريق الشعب العراقي الواحد كردا وعربا وتركما
صباح كركوكي
تحية الى كاتبنا المحترم و اتمنى ان يكون رسالتك قد وصلت الى قلوب العراقيين و يراجعوا انفسهم و خير دليل على مصداقيتهم بانهم عراقيين و يتقبلون من يشاركهم الوطن هي التصويت لبرواس و بغيرها فأقرأ السلام على هذا الشعب
زامل اللامي
بارك الله فيك ياسيد الكتاب استاذ علي حسين الذي دائما يكشف اين هي الجروح في بدن العراق وماهي دواء علاجها لكن المشكلة تكمن في عدم استعمال هذا الدواء لكن اقول انه مهما حاول سياسيوا الصدفة الذين فرضوا على العراقيين تفريق الشعب العراقي الواحد كردا وعربا وتركم