سايكس بيكو فصل دراسي حفظناه عن ظهر قلب في مقرر التاريخ منذ الخامس الابتدائي. كان المد القومي يلعنها لأنها اتفاقية قسمت الوطن العربي "الموحد". وفي مطلع أيار كتبت الغارديان مقالا تحت عنوان "سايكس بيكو قد لا تشهد ذكراها المئة" ففي ٢٠١٦ يمر قرن على الاتفاقية التي قام الفرنسيون والإنجليز ضمنها بتقاسم تركة الرجل العثماني المريض، ونشأت معها حدود بلداننا. اليوم تتحرك المسارات كما يقال ليعاد تركيب الخارطة بطريقة مؤلمة، والمشكلة أن تغيير الحدود أو العلاقات قد يأتي باتفاقية وخارطة تغذي مساراً دموياً لقرن آخر.
لكن اتفاقية سايكس بيكو جرت أثناء الحرب العالمية الأولى، يوم لم يكن في المسافة بين البحرين ولبنان سوى اقل من نصف مليون بندقية صيد عتيقة، وبضعة مدافع عثمانية تركها جيش متوغل في وحل الحرب الأوربية. وكان يسيرا على لورنس ونظرائه ان يتحكموا بالبنادق والمجموعات البشرية البسيطة تلك. لكن تغيير الحدود اليوم يجري مع شعوب تمتلك أف ١٦ والميغ ودبابات ابراهامز وتي ٧٢ وتريليونات النفط ومشاريع نووية، والأخطر أن لديها انتحاريين يفجرون انفسهم في كل شيء. ان سايكس بيكو الجديدة تريد ان تعيد تقسيم "غابة الأسلحة الفتاكة" وستحمل جماعاتنا البشرية ثمنا أغلى وأغلى وسط غياب صوت العقل، وتعامل الدنيا معنا كشعوب مجنونة تعبد الأسلاف والطواطم ولا تحسن تعريف مصالحها بمعايير عصر الشراكات الكبرى. انه تقسيم دموي لأمة خارج العصر، اخذوا منها القلم ووضعوا في يدها البندقية!
كيف نفكر نحن ضحايا سايكس بيكو؟ اننا نقوم بتبسيط الحقائق فنغرق في الدم. "الحالمون" أمثالي بحوار عقلاني يحتوي العنف، يجري ردعهم بمقولة رهيبة: عليكم انتم دعاة السلام ان تقنعوا السنة باحترام خيار الأغلبية الشيعية؟
وهل لدى الأغلبية الشيعية خيار موحد كي تحترمه "الأقلية"؟ وهل نهج الحكم اليوم يمثل خيار الشيعة، وكل مراكز القوى الشيعية في العراق تعترض عليه بأشد العبارات؟ لقد تفاقم الأمر منذ ان شعر بعض الشيعة بأن على السنة والأكراد والشيعة الآخرين، ان يتحولوا الى تلاميذ مطيعين مؤدبين ولا يعترضون على رأس السلطة، الذي لم يتسلم السلطة إلا بمباركة باقي الشركاء. وقد تفاقم الأمر حين تعاملت أقلية سياسية داخل الطائفة الشيعية، مع التخويل البرلماني لرئيس الحكومة، بوصفه سيارة حديثة يركبها المالكي لينطلق بأقصى سرعة ويرتكب الخطايا المتواصلة دون ان يتوقف عند أي إشارة مرورية لمراجعة المسارات مع من منحوه مفتاح السيارة.
أيضاً فان الأمور تفاقمت حين ظهر متطرفو الطوائف الأخرى وقدموا لراكب السيارة المعترض على كل إشارات المرور، اسخى الخدمات، وأتاحوا له ان يقول للجميع: علي ان أقوم بدهس المتطرفين أولا، قبل ان أتوقف للمحاسبة. وهاهو يقود عربته بتطرف منذ ٨ سنين دون ان يدهس أحداً سوانا نحن السابلة المساكين.
نريد بالتأكيد احترام خيار الأغلبية. وهذا ما حصل عام ٢٠١٠ حين وافق الجميع على الولاية الثانية. لكن الأمر اخطر بكثير من خيارات تبحث عن احترام. ولو صحونا صباحا ووجدنا السنة والأكراد قد تبخروا ولم يبق سوى الشيعة في البلاد، فهل يعني هذا ان السلطان سيصحح نهجه ويقدم لنا دولة كريمة حديثة؟ أم سيظل يتمسك بسلطانه ولو بثمن ممارسة أسوأ الألاعيب وأكثرها دموية وهو تائه في حفلة الموت الإقليمية هذه؟
اخيرا: اين الدولة؟ ان بغداد التي تدفع ثمن تطاحن المتطرفين، مثل امرأة تقطع الشوارع الموحشة عند أول المساء، وتبكي كل أبنائها. تسترجع موجات الموت التي مرت عليها في "قرن سايكس بيكو" النحس، وتسأل عن جدوى ان يرحل العراقيون بهذه الطريقة المؤلمة، وعن المكسب المتحقق من كل الحروب والهزائم. تسأل عن السلاطين والجنرالات الذين جرى سحلهم وتقتيلهم مرة تلو اخرى دون جدوى. وتسأل عن الدولة. اين الدولة؟ بغداد التي تعوم على بحر من معلومات القتل المنهجي وإشاعاته ومبالغاته، وبحر من الكآبة غير المكتومة، لم تجد إجابة واضحة من الدولة. يقولون: كل الاحاديث عن القتل والسيطرات الوهمية والجثث في الطب العدلي إشاعة. لكن الدولة صامتة أو بحكم من يصمت. لماذا لا يضع احد حدا لهذه "الشائعات" إذن؟ ولو حصل ربع ما يجري في بغداد، في بنغلادش، لرأينا فريق أزمة وزاري يظهر على الشاشات رأس كل ساعة ليوضح ما يجري للناس. لكن بغداد مثل أرملة تقطع شوارع الوحشة ذاهلة وساخطة على "قرن سايكس بيكو" لم تعثر على الدولة. أنها تعيش مرة تلو أخرى، زمن غياب الإجابات الشافية. رتابة الموت وانعدام التدبير يقطعان كل الألسنة.
الأغلبية وسايكس بيكو
[post-views]
نشر في: 28 مايو, 2013: 10:01 م
جميع التعليقات 3
faro
ﺍﻧﺎ ﻣﺘﺎﺑﻊ ﻟﻤﻘﺎﻟﺎﺕ ﺍﻟﺴﻴﺪ ﺍﻃﺎﺉﻱ ﻣﻨﺬ ﻓﺘﺮﻩ ﻭﺍﺣﺐ ﺍﻥ ﺍﻗﻮﻝ ﺍﻧﻨﻲ ﺍﻓﺘﺨﺮ ﺑﺍﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻋﻨﺪﻧﺎ ﻣﺜﻞ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺼﺤﻔﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻌﻤﻞ ﺑﻜﻞ ﺍﺣﺘﺮﺍﻓﻴه و ﻣﻬﻨﻴﻪ ﻭﻟﻮ ﻛﺎﻥ ﻟﺪﻳﻨﺎ ﺟﺎﺉﺯﻩ ﻣﺜﻞ ﺟﺎﺉﺯﻩ ﺑﻠﻮﺗﺰﺭ ﻟﻤﻨﺤﺖ ﻟﻠﺴﻴﺪ ﺍﻟﻂﺎﺉﻱ ﻭﻟﺎ ﺍﺑﺨﻞ ﺣﻖﺍﻟﺼﺤﻔﻴﻴﻦ ﺍﻟﺎﺧﺮﻳﻴﻦ .
هرمز كوهاري
اقول: احسنت
المدقق
هنيئا لكم على هكذا كاتب تحفة .... انه الكاتب العنجوكي ...