TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > غسيل دماغ... شامل

غسيل دماغ... شامل

نشر في: 29 مايو, 2013: 10:01 م
أشك في أن أي قناة تلفزيونية أو صحيفة يومية في البلاد العربية أو الإسلامية قد اهتمت بخبر الوليد الصيني الذي أنجبته أمه الصبية في مرحاض وانحشر في ماسورة مجرى التصريف وأنقذ في اللحظة الأخيرة في إحدى بلدات الشرق الصيني... أشك في اهتمام إعلامنا بهذا الخبر إلى درجة وضعه في صدر النشرات الإخبارية التلفزيونية أو الصفحات الأولى للصحف. 
اذا كانت بعض محطاتنا التلفزيونية أو صحفنا قد اكترثت للخبر، فالأرجح أنها أوردته ضمن أخبار الغرائب والطرائف بوصفه مادة للتسلية والتسري عن الأنفس المثقلة بالهموم في بلداننا.
في لندن التي وصلتها منذ بضعة أيام كان الخبر الطاغي في الإعلام يخص تداعيات الجريمة الشنيعة التي ارتكبها اثنان من الإسلاميين بذبحهما جندياً بريطانياً شاباً بالسواطير والسكاكين والتمثيل بجثته وسحلها بعد صدمه بسيارتهما في عرض الشارع وفي وضح النهار وأمام أعين المارة من نساء ورجال وأطفال وكاميرات تلفوناتهم المحمولة!.. وهذا الجندي قتل بهذه الطريقة الهمجية ليس لأنه تعدّى على قاتليه مثلاً او تجاوز على حقوق لهما، وإنما لأن بلاده شارك في تحرير العراق من دكتاتورية صدام حسين وأفغانستان من ظلامية طالبان والقاعدة. 
وبرغم طغيان خبر الجريمة المروعة هذه على اهتمامات الرأي العام البريطاني، وجد خبر الوليد الصيني سعيد الحظ مكاناً له على الصفحات الأولى للصحف الوطنية والمحلية وفي مطالع نشرات الأخبار التلفزيونية. والخبر عُرض بأسلوب ولغة مشحونين بالعاطفة والنزعة الإنسانية، فعملية الإنقاذ قُدّمت الى الرأي العام بوصفها عملاً مجيداً ومأثرة كبيرة.
بهذه الطريقة يساهم الإعلام في البلدان المتحضرة في تنمية الحس الإنساني والذوق الرفيع والحضّ على الفعل الايجابي في الحياة، وهي طريقة تخالف تماماً ما يتبعه اعلامنا وسائر هيئاتنا الاجتماعية، بما فيها الدينية والرسمية. نحن نركز على الاحداث السيئة .. إعلامنا يمجد، مباشرة أو مداورة، أعمال العنف والقوة والاستبداد والطغيان وانتهاك الحقوق والحريات، أو يلتزم الصمت حيالها في أحسن الأحوال.. وهو بذلك يساهم في بناء شخصية سلبية، فردية أو جمعية، لا يصدمها فعل القتل حتى لو كان جماعياً، ولا يسعدها انقاذ انسان أو حيوان من خطر داهم. 
عائلة أحد قاتلي الجندي البريطاني أعلنت في بيان ان ابنها البالغ من العمر 28 سنة، وجرى اقناعه بتحويل ديانته الى الإسلام منذ عشر سنوات، "تعرض لعملية غسيل دماغ" جعلته يخرج عن التقاليد المسالمة لعائلته المسيحية ويتحول الى وحش كاسر. والواقع إننا جميعاً نتعرض الى عمليات غسيل دماغ، يتعاون فيها الإعلام مع الهيئات الدينية والحكومية. وهذا ما يفسر ليس فقط عدم اهتمامنا بخبر مثل إنقاذ الوليد الصيني، وعدم الشعور بالصدمة حيال عملية ذبح إنسان علناً في أحد شوارع لندن، وإنما أيضاً في هذا القبول الجمعي في بلداننا بأعمال الإرهاب، تأييدها وتمجيدها والانخراط فيها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 4

  1. سولون العراقي

    استاذنا الكبير تحية اجلال واكبار لك . اصدح فلقد عز علي حتئ الكلام بدات افقد الامل لولا كلماتكم التي تدق ناقوس الخطر من الدكتاتور القادم حفظكم اللة

  2. علاء البياتي

    سيدي الكاتب لااناقشك على ان جنود الدولة التي تحمل جنسيتها هم مستعمرون قذره مارسوا القتل في بلادي وهنالك الكثير من البريطانين الشرفاء يريدون محاكمة مجرم الحرب بلير...ونتائج حربكم التحرريه في العراق انت تكتب عنها يوميا...انا اليوم اناقشك عن انسانيه الاعلام

  3. هاني لازم

    مقالة جديرة بالاهتمام من قبل الاعلاميين والنخبة المثقفة لربما تعدل الشروخ والاعوجاج في ثقافة شعبنا شكرا استاذ

  4. كاطع جواد

    لم يكن المجتمع العراقي و العائلة العراقية على هذا الحال من السلبية ولكن مجيء الحكم الصدامي للعراق وما تعرض له الفرد العراقي من صدمات ونكبات افقدته الحس الإنساني و وضعته في مصافي الشعوب المتخلفة ، كما ان هذه السلبية قد نمت وتعززت بعد سقوط صنم العراق في ٢٠

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram