TOP

جريدة المدى > عام > ما يغفله الدرس الأدبي

ما يغفله الدرس الأدبي

نشر في: 31 مايو, 2013: 10:01 م

بدءاً أرجو الأ يوحي العنوان بالذم. فالدارسون والباحثون أساتذة أجلاء انا تلميذ للكثيرين منهم. ولكن ما اردته ان الدارس قد يشتغل على مسألة تستهويه فيغفل عن سواها لها امتيازها او سموها ، فناً وموضوعاً. وهذا يحصل لا في دراستنا للاقدمين، لكن حتى في دراست

بدءاً أرجو الأ يوحي العنوان بالذم. فالدارسون والباحثون أساتذة أجلاء انا تلميذ للكثيرين منهم. ولكن ما اردته ان الدارس قد يشتغل على مسألة تستهويه فيغفل عن سواها لها امتيازها او سموها ، فناً وموضوعاً. وهذا يحصل لا في دراستنا للاقدمين، لكن حتى في دراستنا لشعراء وكتاب اليوم. نهتم بمسألة فنهبها كل اهتمامنا ونغفل عما يستحق الدرس أيضاً او الانتباه الى ما فيه.
اعتدت ان ارجع لدواوين الشعراء العرب القدامى بين حين وآخر، لسبب يخص الدرس او الكتابة او بحثاً عن خصائص كانت، وربما لأجدد لغتي وأثريها .. وهكذا وجدتني امام امرئ القيس واني اقلب صفحات ديوانه واتوقف عند هذا البيت وذاك المطلع وهذا "الجو" وذاك مما يهمني في القصائد القديمة.

ارتبط اسم امريء القيس بمعلقته. فشغلت معلقته دارسيه حتى كأن ليس في الديوان سواها. طبعاً المعلقة عمل عظيم وهي تقع في ستةٍ وسبعين أو واحد وثمانين بيتاً وبعضهم يوصلها الى التسعين، وانه نظمها في بنت عمه عنيزة ... شخصياً لا ارى الكلام علمياً فالقصيدة بمضامينها المتعددة والنظام الذي جمعت فيه لا تبدو مكتوبة لأحد. هو وزّع نفسه ونشرها في الجزيرة وأحواله فيها. لتكن ابيات الغزل واللقاء عن عنيزة أو عن سواها، لا يغير هذا من الموضوع شيئاً. ومازلنا مقرّين بل نزداد اعجاباً بالمعلقة فهي واحدة من الاعمال العربية النادرة ومن وثائق العرب والثقافة العربية في زمنها. لكن القصيدة العظيمة هذه لا تكتسب بعدها من غزلها او من مشاهد الحب فيها. عظمتها انها تكشف الجزيرة العربية، بالتماس اليومي وبالاستيعاب وبالتذكر والمشاهدة، كل ذلك تجمعه تجربة شاسعة.

يبدو اني اطلت في التمهيد لأدخل الموضوع الذي رصدت والمسألة التي اردت لفت الانتباه لها. ففي الديوان شعر. معنى الكلام فيه قصائد متكاملة ومحكمة مما نرتاح له اليوم في شعرنا الحديث ومنطقه النقدي. أليكم مثلا، هذه القصيدة وهي ببضعة ابيات، لم يهتم بها دارس ولا اشار لها باحث وظلت متخفية مهملة بين حشد من الاشعار. 
تقع هذه القصيدة في ثمانية أبيات يصف فيها مطراً ساعة غيث شديد. وصف المطر وفصول الغيث متواتر في قصائد العرب. لكننا هنا بإزاء قصيدة متكاملة بناءً. قصيدة لها معمارها الهادئ البسيط لكن المتقن. مسألتنا ليست اننا نكتب عن الشعر الجاهلي في زمن الحداثة. المسألة ان عملا له امثاله من الاعمال المكتملة لم تستوقف دارساً. وأننا نجد هذه القصيدة لا واحدةً من قصائد الطبيعة ولكن هي قصيدة من قصائد محنة الوجود الفردي في عالم شاسع لا سلطان لنا عليه. فليس فيه غير الوحشة والمطر. نحن إذن ، من هذا الجانب، في صميم قضايا الشعر المعاصر. هذه هي القصيدة وسأعيد من بعد كتابتها نثراً Paraphrasing لتتضح: 
ديمةٌ هطلاءُ فيها وطَفُ
تُخرِجُ الودَّ إذا ما أشجذتْ
وتَرى الضبَّ خفيفاً ماهراً
وترى الشجراءَ في رَيّقِهِ
ساعةً ثم انتحاها وابَلٌ
راح تُمريهِ الصبا ثم انتحى 
ثَجَّ حتى ضَاق عنٍ آذيّهِ
قد غدا يحملني في أنفِهِ
طَبّقَ الارضَ تَجرّي وتدرّْ
وتواريهِ إذا ما تشتكرْ
ثانياً برثنَهُ ما ينعقر
كرؤوس قُطِعَتْ فيها الخمُرْ
ساقط الأكتاف واهٍ منهمرْ
فيه شؤبوبُ جنوبٍ منفجرْ
عرْضُ خيم فخفاء فيُسُرْ
لاحقٌ الإطلينِ محبوكٌ مُمِرّْ
هي سحابة تضخ مطرها.
طبقت الارض وما تزال ترغو وتهيل الماء صببا.
إذا خف المطر، امتصه الرمل فتكشف الوتد "الود" المغروس وظهر واذا اشتد المطر ثانيةٍ اخفاه.يجد الضب فرصته فيخطف امامه خفيفاً ماهراً.
والشجيرات الغارقة في سيول المطر تبدو رؤوسها مثل عمائم (خُمُر) مقطوعة طافية. 
هكذا بين ضخ ثقيل يغرق المعالم لا يكف انهماره
وهدوء قليل يعقبهُ المطر مرةً اخرى.
ويكمل الشاعر:
واذ ادركني آخرُ النهار ولما ينقطع المطر، 
علوتُ جوادي ونهبتُ الطريق غير مبالٍ بعد بالمطر
المطر في هذه القصيدة ليس عارضاً . ليس أمراً ثانوياً تتوسل به القصيدة الى غرضها. المطر هنا موضوع القصيدة الأساس. المطر والشاعر هما القصيدة كلها! هذا هو الجديد أو النادر في القصيدة الجاهلية .
الشاعر توقف في الطريق , أوقفه انصباب المطر وظل ينتظر ان يكف , ليواصل طريقه. لكن المطر يهدأ قليلاً ليشتد انصبابه مرة أخرى . 
وتد الخيمة علامة قوية حيّة في القصيدة هو شاغل الشاعر , مرة يغرقه المطر , يخفيه , ومرة يهدأ المطر وتمتص الرمال الماء فيتكشف الوتد ويظهر لامعاً في ذلك الجو المغيم .
ليس للشاعر غيره في الصحراء . هو علامته هو ما تقع عينه عليه: الوتد ! فنحن بإزاء المطر وهنالك "الشاعر في الخيمة , الأوتاد والفضاء الشاسع القائم الممطور وخطفة الضب ليختفي..
انشغال القصيدة بموضوعة المطر وانغمار الشاعر في التجربة , أبعدا كليشيهات التعبير المتوارثة والأوصاف. فهو لم يشغله البرق يظهر ويختفي" كضوء الراهب المتبتل .. , ولم تشغله أيُّ من معالم الطبيعة حوله : هو والمطر .
بدأ القصيدة بالمطر:
ديمةٌ هطلاء 
وانتهى بنفسه متجاوزاً المطر:
قد غدا يحملني ..
هذه القصيدة المتكاملة ذات الثمانية أبيات, لم تشغل أياً من دارسي الأدب الجاهلي – على قدر علمي. لا من القدامى ولا من المحدثين. انشغلوا بالمعلقة, او المذهّبة , كما يسمون المعلقات أحياناً . المعلقة لا شك قصيدة بنورامية عظيمة. لكنها, وهذا ما يجب الالتفات له أيضاً, لا تبدو قصيدة واحدة.هي في الحقيقة تتكون من قصيدتين : الأولى من وصف الليل, الغزل بفاطمة والصيد. والباقي قصيدة أخرى جمعهما الرواة معاً .
وقد أتجاوز هذا الرأي فأقول هي ثلاث أو أربع مقطوعات جمعها الرواة في عمل شعري واحد يستعرض حياة معينة في بيئة معينة , تتحكم فيها مفردات ذلك الزمان الشعرية وأدبياته .
مسألةٌ مثل هذه مما يجب الانتباه له في الدرس الأدبي وألّا تأخذنا في التقدير الأقاويل والأحكام فنتبعها دونما تمحيص أو إعمال فكر .
بقي ان اسأل: كم ضاعت من فرائد تراثنا بسبب سوء القراءة او سرعتها او بسبب انحيازاتنا الثقافية او قصورنا النقدي؟ السنا مدعوين الان لقراءة جديدة بوعي نقدي جديد، لتدارك ما فات ولكي لا تظل كتابات مهمة مهملة لا يلتفت اليها احد بسبب غياب الفطنة او بسبب انها ما خضعت للمألوف الذي كان يهم الدارس القديم.
ما كانت هذه القصيدة، ولا اقول المقطوعة، لتظل غفلا لو بدأت بالنسيب وتناولت ما يرضي الناقد القديم. يبدو لي ان مواصفات القصيدة الجاهلية هي مواصفات القصائد المطولة متعددة الاغراض وليست صفات ومزايا القصائد القصار ذوات الموضوع الواحد، التي هي أكبر عدداً و تشكل جل ديوان العرب. واذا كانت للمطولات امجادها، فلهذه مزايا قصيدة التجربة الواحدة والموقف الواحد وهما ميزتان من مزايا شعر اليوم. وهذا جوهر المطلوب من التراث!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مدخل لدراسة الوعي

شخصيات أغنت عصرنا .. المعمار الدنماركي أوتسن

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

د. صبيح كلش: لوحاتي تجسّد آلام الإنسان العراقي وتستحضر قضاياه

في مديح الكُتب المملة

مقالات ذات صلة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع
عام

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

علي بدركانت مارلين مونرو، رمزاَ أبدياً لجمال غريب وأنوثة لا تقهر، لكن حياتها الشخصية قصة مختلفة تمامًا. في العام 1956، قررت مارلين أن تبتعد عن عالم هوليوود قليلاً، وتتزوج من آرثر ميلر، الكاتب المسرحي...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram