اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > تشكيل وعمارة > بناء المدينة في العراق والمقياس الإنساني

بناء المدينة في العراق والمقياس الإنساني

نشر في: 31 مايو, 2013: 10:01 م

شارع الرشيد لطالما احتل الإنسان دورا ً مركزيا ً في بناء المدينة وفي صناعة الحضارة عموما ً ليسخر كل مقدرات الحضارة والطبيعة وما تنتجه المدينة لخدمته وتلبية احتياجاته. وقد استمرت فكرة مركزية الإنسان ومازالت تهيمن على فلسفة إقامة المدن وبنائها. إن كل م

شارع الرشيد
لطالما احتل الإنسان دورا ً مركزيا ً في بناء المدينة وفي صناعة الحضارة عموما ً ليسخر كل مقدرات الحضارة والطبيعة وما تنتجه المدينة لخدمته وتلبية احتياجاته. وقد استمرت فكرة مركزية الإنسان ومازالت تهيمن على فلسفة إقامة المدن وبنائها. إن كل ما يُبنى في المدينة يصب في خدمة ساكنها الإنسان، وإن أي جزء أو عنصر فيها لايؤدي هذه الوظيفة - خدمة الإنسان - فإنه يتحول الى موضع رفض يؤدي الىإهمالهالى حد الاندثار أو الى عدم تبنيه أساسا.
غير أن الدراسات والبحوث المعاصرة بدأت تشير بشكل واضح الى أن اتخاذ الإنسان لهذا الدور المركزي في الطبيعة والمدينة هو أمر تحميلي أكثر من كونه واقعيا ً وأنه لايصب في خدمة النظام البيئي للطبيعةEco-system ولا تكاملها المتنوع Bio-Diversity ولا حتى في بيئة المدينة Urban Environment والتي هي من المفترض أن تكون البيئة الخاصة بصانعها الإنسان. كما أن التجارب التي عاشها ويعيشها الإنسانالآن وبخاصة في القرنين الأخيرين تؤكد خطورة هذه السياسة في التعامل مع البيئة عموما ً. إن الإنسان لايمكن له أن يعيش بمعزل عن مكونات الطبيعة الأخرىوبالأخص الحية منها، كما انه لايمكن له أن يسخر كل مكوناتها دون أن يسمح لها أن تجد أنظمتها ودوراتها الطبيعية اللازمة لحيواتها.
لمن نبني مدننا؟
تبدأ عمليتا التخطيط الحضريUrban Planning والتصميم المعماري Architectural Design عادة بدراسات تمهيدية منها دراسة نوعية وكفاءة العمارة The Quality of Architecture وتحديد المجموعة المستفيدة والمستخدمة للمنشأTarget Group وتحليل الحاجة له Needs Analysis.
ومن خلال نظرة علمية وبعيداً عن المصادرة والاستثناء فإن الإنسان هو المستفيد والمستخدم الأول للمدينة عموما ً ولكنه ليس الوحيد، وإن جميع الكائنات الحية الأخرى التي تشاركه المكان تشترك معه في تنظيم الحياة المدينية كما أنها تشاركه في تدميرها والإساءةاليها. مع ذلك يظل الإنسان هو المستفيد الأولوالأكبربالإضافةالى أنه المؤثر الأعظم فيها باعتباره الصانع والمخطط والمدير لها. وان المقياس الإنسانيHuman Scale هو المقياس الغالب على مكونات المدينة City Components وان كل المقاييس الأخرى تظل تابعة له ومرتبطة به. وماينبغي العودة الى قوله هنا أن للمقياس الإنساني أن يلوّن ويطبع عموم المدينة ولكنه لاينبغي له أن يهمل المقاييس الأخرى ويتجاهلها.
إن الغاية الأساسية من بناء المدينة هي خدمة الإنسان من خلال خلق البيئة المناسبة له ومن كافة النواحي الوظيفية والنفسية، والذي يؤدي بدوره الى غلبة المقياس الإنساني على بقية المقاييس الأخرى كحصيلة منطقية لتحديد المستخدم الأول للمدينة.
المقياسالإنساني وحدود التعامل معه
أن المقياس بصورة عامة لا يملك قيمة مطلقة، إنما هو علاقة نسبية بين مكون ما Element وبين الوسط Context الذي يتواجد فيه. والمقياس المقصود هنا هو العلاقة بين الإنسان وبين المدينة بكل مكوناتها. ولكونالإنسان يمثل أحد أقطاب هذه العلاقة فإن العامل النفسي يلعب دورا ً مهما ً في إدراك هذا المقياس ووضع حدود التعامل معه. وعلى ذلك فإن المقياس الإنساني يدرك بمستويين مختلفين ولكنهما على ترابط وثيق، تلعب الأبعادالفيزياوية الدور الأكبر في الأول، وتلعب العوامل النفسية الدور الأكبر في الثاني.
الأول : هو المقياس الإنساني الفعلي والواقعي والمرتبط بالحيز المكاني الذي يتخذه الإنسانوالأبعادالقيزياوية لجسده في كل الأوضاع الممكنة من الوقوف والجلوس والانحناء والاستلقاء وغيرها. تشكل هذه الأبعادDimensions الوحدات Unitsالأساسية التي يبني عليها وبها المعمار نموذجه Module، وقد حاول معماريون رواد عدة إيجاد هذه المقاييس والنسب لجعلها الوحدات الأساسية للعمل المعماري والحضري ولربطه مباشرة بالطبيعة والإنسان تحديدا ً، وتجنب الخروج إلى مقاييس شاذة وغريبة، بدءا ً من النسبة الذهبية Golden Section التي درسها الإغريق الى المقاييس التي اعتمدها الروماني فتروفيوسVitruvius ومن ثم معمار عصر النهضة دافنشي Leonardo da vinci ووصولا إلى العمارة الحديثةModernism والمعمار السويسري الفرنسي لي كوربوزيهLe Corbusierوجداول النسب التي أوجدها وسماها بالموديولارModulor.
مع ذلك تظل هذه المحاولات محصورة في دراسة المقياس الإنساني للبالغ وتهمل عادة هذا المقياس في مراحل أخرى من عمره كالطفولة والمراهقة والشيخوخة ولكل من هذه المراحل أبعادها وخصائصها وبالتالي مقاييسها.
الثاني : المقياس الإنساني المنظورExperienced Scale والذي هو حصيلة الصور والتأثيرات التي يعيشها الإنسان مع بيئته، فهو المقياس المعاش، وفي الحقيقة فأإه أكثر واقعية من المقياس الأول الفعلي، فالإنسان لايشعر ولايحس مكونات البيئة والمكان بقياساتها الفعلية وبدقة رياضية وإنما بالمقارنة والتناسب فيما بينها ومتأثرا ً بعوامل نفسية كثيرة ومتغيرة والبعض منها عادة مايكون شخصيا ً وخاصا ً به كفرد. فهناك من يتعايش مع مراكز المدن المكتظة عمرانيا ً كمكان ملائم ومقبول بل وإنساني، في حين تتحول ساعات معدودة لأناس آخرين في مركز مدينة متوسطة الكثافة الى كابوس ومعايشة مجهدة لايطيقون الاستمرار بها.
المقياس الإنسانيفي مدن العراق 
هناك الكثير من مدن العالم من تعلمت من ماضيها لتنتج حاضرا ً أكثر رفاهية وأقل تعقيدا ً وأقرب الى مقياس إنسانها وإن تضخمت مقاييسها هي ذاتها. فهل سارت مدن العراق في توسعها المطرد في هذا الاتجاه؟ وخاصة فيما يتعلق بالمقياس الإنساني؟
يقدر معدل النمو السكاني في العراق لعام 2012 بـ 2.9 % وهو من أعلى معدلات النمو في العالم.
إن استقراء تفصيليا ً بل وعاما ً أيضا ً يمكن أن يعطي صورة واضحة بأن مدننا قد انتهجت طريقا ً معاكسا ً وأنها ما زالت توغل في هذا الاتجاه. كان الإنسان يضع بصمته ويعكس مقياسه على عموم النسيج الحضري للمدينة وفي كل تفاصيلها، وما ان حل القرن العشرون وفي تزامن مع ظهور العمارة الحديثة Modernism حتى حلـّت الماكنة محل الإنسان وكأن الانسجام بينهما أمر غير ممكن. لم تخل المدينة القديمة من مشاكل عدة غير أن الحديث هنا عن أثر المقياس الإنساني في بنائها.
حجم المدينة واتساعها كان يتناسب بشكل مقبول مع حركة الإنسان وقدرته على التنقل بواسطة أو بغيرها، وحين حلت وسائط النقل اتسعت المدن في العراق بشكل أفقي مفرط وبمقياس يتناسب بوضوح مع قدرة التنقل مع هذه الوسائط ولكن أهمل المقياس الإنساني في التنقل بشكل مفرط هو الآخر، تباعدت الأحياء السكنية بمسافات وفواصل يصعب التنقل معها بدون تلك الوسائط وتحولت هذه الفواصل الى فجوات غير مقبولة بصريا ً وغير مؤهلة للاستخدام البشري وخالية من الإمكانات والتسهيلات التي تجعلها أواصر لوصل أجزاء المدينة– وبغض النظر عنابتعاد هذه الفواصل الحضرية In-Between Gaps عن كونها قابلة للاستخدام البشري بمقياس إنساني فإن لها تأثيرا ً اجتماعيا ً أعمق في تركيز وتأكيد التفكك الاجتماعي بين أجزاء المدينة وخلق العزلة Segregation والطبقية Social Stratification -. أما داخل قطاعات المدينة نفسها فقد توسعت خطوط النقل ( الشوارع والجسور والممرات والأنفاق وغيرها ) واتسعت بما يناسب حركة مكائن النقل ولكنها ضاقت على سكانها فلم تعد الشوارع آمنة أو مريحة للبالغين الأصحاء والحال أسوأ بكثير بالنسبة للمعوقين وكبار السن والأطفال، وحتى مسارات المارّة لاتناسب المقياس الإنساني ولايترك عادة من المقطع العرضي Cross Section لهذه المسارات سوى أقل القليل للسابلة وفي أحيان كثيرة يتم إلغاؤه تماما ً أو استغلالهلأغراض أخرى كنصب بعض الأجهزة والمكائن وكذلك للعرض المجاور لبعض المحال التجارية ومداخل السيارات للمنازل والمباني الأخرى، وعادة ما يعترض خطوط حركة السابلة هذه موانع شتى كمساحات التشجير ومعدات الطاقة الكهربائية وبقايا شبكات الماء والمجاري وإشارات المرور واللافتات والإعلانات، بالإضافةإلىاختلاف مستويات أرضية هذه المسارات ورداءة تنفيذها، حتى ليسقط المرء في تساؤل محيّر؛ هل أ ُنشئت هذه المسارات لمنفعة الإنسان المستخدم لها؟ أم لإعاقته ومضاعفة معاناته؟
أما فيما يخص توسع المدينة في الاتجاه العمودي فإنه لم يكن أفضل حالا ً من توسعها الأفقي، فقد بدأت المباني بالارتفاع بشكل لايناسب مقاييس الأحياءوالأماكن التي تقام فيها ولايناسب المقياس الإنساني هناك، وخصوصا ً مع دخول الهياكل الكونكريتية الكئيبة - في الواقع أن الكونكريت كمادة إنشائية له جماليته الخاصة وهو مادة نحتية طيّعة إذا ما أتقن استخدامها كما في أعمال لي كوربوزيهLe Corbusier وكنزو تانغهKenzoTangeونيرفيPer Luigi Nervi و آندوTadao Ando - حتى لقد أصبحت المفارقة مضحكة في تحديد ارتفاع الطابق اعتمادا ً على مقاييس قوالب التنفيذ التي تنصب ليومين أو ثلاثة في حين يتم إهمال مقياس الإنسان الذي سيسكنها لأعوام. لقد ارتفعت بعض المباني كالفنادق في بعض الأزقة الضيقة بأبعاد لاتناسب المكان الذي احتواها مما يشيع فوضى في المقاييس وفي النسب Proportions ، وفي مقابل ذلك نجد معمارا ً مدركا ً ومتقنا ً لعمله كرفعتالجادرجي في تصميمه لمبنى البريد المركزي في السنك ببغداد لايتوانى عن الاحتفاظ بمقياس شارع الرشيد والارتفاع السائد هناك ليدفع بباقي كتلة المبنى المرتفع بعيدا ً الى الخلف فما للمكان للمكان وما للمدينة للمدينة، إذ يصبح الجزء المرتفع من المبنى جزءا ً من مشهد المدينة العام في حين يبقى الجزء المنخفض منها منسجما ً مع ما يجاوره.
كما أن الأروقة وبعض العناصر المعمارية الشبيهة والتي هي بحق من أجمل ما تميزت به العمارة الإسلامية وعمارة الشرق على العموم، هذه العناصر التي دائما ً ما تبنى حسب مقياس إنساني خالص ولغرض إنساني لطيف بدأت بالاندثار والاضمحلال بل والاختفاء، وعلى قدر مالها من جمالية في اقترابها من مقياس الإنسان إذ تحتضنه بعيدا ً عن مقاييس المكان الأخرى المتغيرة فإن لها وجها ً إنسانيا ً واجتماعيا ً رقيقا ً ،إذ هي بمثابة منحة من المبنى إلى المارة بعيدا ً عن الحركة غير المرغوب فيها في وسط الشارع ولحمايته من عوامل المناخ الصعبة ،كالأمطار والشمس الساطعة وحرارة الصيف اللافحة وغيرها. الرواق هذا العنصر الذي يعتبر جزءا ً لايتجزأ من جمالية شارع الرشيد أصبح محرما ً على غيره استجابة لقوانين تخطيطية غير واعية ما زلنا مصرين على الالتزام والعمل بها.
فإذا كانت الغاية الأكبر من بناء المدينة هي خدمة ساكنها الإنسان، فلماذا نبني مدننا إذا ً إذا كانت أغلب مكوناتها لاتناسب مقياس إنسانها ؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. هند كامل

    فعلاً .. غاية المدينة تلبية حاجة الأنسان , و لا سيما النفسية منها .. فالفرشة حينما تطير لا تحمل معها مسطرة لتقيس أبعاد الزهور .. لكنها تروي ناظريها بجمالها .. وكذا علاقة الأنسان المستطرق مع المباني ..

يحدث الآن

الشرطة المجتمعية: معدل الجريمة انخفض بالعراق بنسبة 40%

طبيب الرئيس الأمريكي يكشف الوضع الصحي لبايدن

القبض على اثنين من تجار المخدرات في ميسان

رسميًا.. مانشستر سيتي يعلن ضم سافينيو

(المدى) تنشر جدول الامتحانات المهنية العامة 

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

شباب كثر يمرون بتجارب حب وعشق فاشلة، لكن هذا الإندونيسي لم يكن حبه فاشلاً فقط بل زواجه أيضاً، حيث طلبت زوجته الأولى الطلاق بعد عامين فقط من الارتباط به. ولذلك قرر الانتقام بطريقته الخاصة....
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram