TOP

جريدة المدى > عام > لنقرأ قصيدة القيامة: يا عصر المآتم يا زمان الموت؟!

لنقرأ قصيدة القيامة: يا عصر المآتم يا زمان الموت؟!

نشر في: 7 يونيو, 2013: 10:01 م

ودع العراقيون شهر أيار (مايو) 2013 توديعهم قديماً لآخر أربعاء مِن شهر صفر، وكانوا يعتبرونه يوماً نحساً، يقول أبو حيان التَّوحيدي (ت 414 هـ): "يا يوم الأربعاء من آخر صفر، ويا لقاء الكابوس في وقت السحر"(الرسالة البغدادية). جرت ضربات متلاحقة بلا فواصل،

ودع العراقيون شهر أيار (مايو) 2013 توديعهم قديماً لآخر أربعاء مِن شهر صفر، وكانوا يعتبرونه يوماً نحساً، يقول أبو حيان التَّوحيدي (ت 414 هـ): "يا يوم الأربعاء من آخر صفر، ويا لقاء الكابوس في وقت السحر"(الرسالة البغدادية). جرت ضربات متلاحقة بلا فواصل، حولت ليل العِراق إلى نهار، وبالعكس الأحزان أحالت نهاره إلى ليل دامس، اسمعتم بالكناية القديمة، والكثيرة الاستعمال بين العِراقيين "راواه نجوم الظهر"، ولعبود الكرخي (ت 1946): "ونجوم الضحى المشؤومة راوتنا"(الشَّالجي، موسوعة الكنايات).

نعم، مَن يريد أن يُنكل بخصمه تنكيلاً شديداً يهدده قائلاً: "أراويك نجوم الظَّهر"، وفي الحال العِراقية حصل هذا التَّنكيل وصار النهار ليلا على الحقيقة لا المجاز. ظلام هانت به هواجس الملك الظَّليل امرئ القيس (ت نحو 540 ميلادية)، وهو ينتظر انبلاج الفجر، وكم طويل على السَّاهر الممتحن بمحنة: "فيا لكَ من لَيْلٍ كأنَّ نُجومَهُ/ بأمراسِ كتَّانٍ إلى صُم جَندلِ"، ومعلوم أن الجَندلَ هي الصَّخرةُ، صماء لا يرجى لين منها (الزَّوزني، شرح المعلقات السَّبع).
إلا أن شاعراً موهوباً عبر عن معاناته، بما يجعلها هي الفريدة، ومثله الكثير صور فراق حبيب أو فقدان صديق نهاية الدُّنيا، وليس هناك صناعة أدب تراجيدي أمضى مِن قصيدة الموما إليه، وقصيدة أبي الوليد أحمد بن عبد الله الأندلسي الشَّهير بابن زيدون (ت 493 هـ)، قالها وهو في الأسر: وهي أشهر مِن أن تذكر، ولا أظن مَن ابتلى ببلوى غربة أو هجران حبيب ولم ينشدها.
هؤلاء الشَّعراء لهم ألسنة، وشياطين تأتيهم بالقوافي مِن وادي عبقر مثلما قرأنا في كتب تاريخ الأدب، ولا أدري إذا ما قيض لامرئ القيس وابن زيدون، وكلُّ شعراء قصائد الندوب والأحزان، عيش لحظة مِن لحظات الأسى العِراقي، والدِّماء الثاغبة مِن الجراحات، والأجساد تتناثر، رأينا أماً تمسك بذراع أو فخذ على أمل أنهما لولدها وتنتظر إتمام الجنازة بلَم بقية الأجزاء، فماذا سيقولون؟ 
أخالهم يعجزون عن النُّطق، فأكثر الأحيان عندما تكبر المآسي وتشتد المحن، إلى هول ما نرى ونسمع، يصعب تصوير الحال، فاللسان يحتبس، وهذا ما أشار إليه معروف الرَّصافي (ت 1945) وكانت المحنة أيسر وأهون: "وفي النَّفسِ ما أعيا العِبارة كشفه/ وما قَصرَ عن تبيانه النَّظمُ والنَّثرُ"(الرَّصافي، رسائل التَّعليقات).
مع إكباري لأكابر شعراء العربية اليوم وبقية الأمم، قد لا يجيدون التعبير عن الجرح العِّراقي مثل أصحابه، الشَّاعر الشَّعبي العِراقي عريان السَّيد خلف وضع صورة الموت الجماعي وتنتظر مَن يحولها إلى عمل فني كلوحة "العشاء الأخير"، أو "يوم بمباي الأخير" وغيرهما مِن الخالدات. فالقصائد أحساس إن كانت في الفصحى منسوجةً أو في العامية. 
عدت إلى قراءتها وهي تتحدث عن موت يسير على رجلين، ويطرق الأبواب، ويوزع السِّدر والكافور بيده، لقد صوره الشَّاعر موت العِراقي بوحش حي يتجول بحرية متناهية . يوزع المستلزمات كي يتهيأ الأحياء لتسليم أرواحهم بلا تأخير، فهو المنتظر خلف الأبواب، مع كلِّ صاروخ وغارة جوية، في سنوات الحروب. أراها ملحمة شعبية، سمعتها أكثر مِن مرة بإلقاء الشَّاعر وتأثيرها بإلقائه يكون أكثر وأمضى.
كانت قصيدة "القيامة" محبوكة الصَّنعة لأنها كُتبت وكائنات معروفة توزع لوازم التغسيل والدَّفن، قال: "الحيطان منخل (غربيل) والدُّروب حفور/ والبيبان (الأبواب) صرخه بلا صدى ولاصوت/صفنة كمبره (طير) بوحشة مسية (مساء) اكبور (قبور)/ووجوه الزغار الحاضنه الشباچ/ باكة(باقة) ورد ذابل بالحزن معصور/والنظره متاهه وخوف يرضع خوف/من يهتز قفل حسبالهم شاجور". إلى قوله: "والموت بصلافه يدك على البيبان/ ويوزع عليهه السِّدر والكافور".
إلا أن تلك القصيدة لم تعد تعبر عن حقيقة المأساة خلال العشر سنوات العجاف الماضيات؛ ما حصل بين 2006 و2007 وما حصل ويحصل في هذه السَّنة. فالكوارث السابقات قادمات مِن الخارج، والحرب كانت سجالاً بين جيوش، ومعارضة تمارس التفجير مثلما هو اليوم، لكن هناك مَن يمنع ويحمي. وسلطة يمكن لك تحييدها تجاه حياتك، إذا غلقت فمك وقبضت يدك عن إيذائها أو مشاغبتها ولو بمزحة بريئة، بمعنى تتمكن مِن التحكم إلى حدٍ ما بسلامتك، وبمعنى آخر إذا شخصت عدوك أمنت نصف الأمان! لكن موت هذه الأيام مِن نوع آخر! وكم يكون الرُّعب والفزع مضاعفاً عندما لا تعرف مِن أين تمتد إليك يده، فالأشباح تخيف البشر لأنها في مخيلات المرعوبين، تأتي مِن حيث لا يعلمون ويحسبون، فلا باب يُغلق دونها ولا شباك.
حاول الشَّاعر نفسه، الاقتراب مِن حالة الموت الجماعي، الذي يأتيك بلا إنذار، وراجت فيه نجارة التوابيت: "ياعصر الفواتح (المآتم) يا زمان الموت/ كافي من الذَّبح مو ناس ما ضلت/ ضاكت كاعنة (أرضنا) من اكبور فوك اكبور/ فوك اكبور أهلنة اكبورنة اتعلت ... ". أخال أن يفنى العراقيون الذين يُسجلون ملاحم هذا الموت، فتذهب الدِّماء بلا ذكريات، فالموت غالب والجهل يغالبه على نخر عقول النَّاس! والشَّيء بالشَّيء يُذكر إن كثرة القتلى في حرب مِن الحروب جعلت الشَّاعر صفي الدِّين الحلي (752 هـ) يتخيل ويقول: "ضاقت على القتلى الفُلاة بأسرها/ فجعلت من أكباد النُّسور لحودا"(الدِّيوان، قصيدة: مَلكٌ مَلكَ الورى). قيل أغلب الأعلام أو الرَّايات العربية الحديثة نُقشت بألوان بيته الشَّهير: "بيضٌ صناعنا، سودٌ وقاعنا/خُضرٌ مرابعنا، حُمرٌ مَواضينا"(مِن قصيدة: سلي الرِّماح)، مع أنه قاله لتجييش روح الثَّأر لخاله.
لقد ضاقت الأرض المظلومة، أي التي لم تحفر مِن قبل لتكون قبراً، وعرفنا هذا المعنى، قبل القواميس، مِن وصية الشَّاعر معروف الرَّصافي، الذي أوصى أن يكون قبره في أية مقبرة، لم يحددها بمذهب ولا بدين ولا بقومية، وتلك سابقة بعد أن تشتت الأحياء والأموات في خلافات الماضي، ورد في وصيته: " لا أملك سوى فراشي الذي أنام فيه، وثيابي التي ألبسها ... أُدفن في أي مقبرة كانت، على أن يكون قبري في طرف منها، وأن يكون في أرض مظلومة وهي التي لم تحفر قبلاً. إن كانت الحياة نعمة سابغة من الله على عباده، فإن الموت رحمة واسعة منه عليهم ..." (عن كتاب: معروف الرَّصافي، سلسلة الأعمال المجهولة، جمع وتقديم نجدة فتحي صفوة).
نشر الموت العراقي أجنحته على كلِّ مدينة وزقاق، يختار الساعات المثلى لحصاد أكبر عدد مِن القتلى، بشر يصرخون: "أين حقنا"؟ حق الحياة، فهو الأول مِن بين الحقوق، كانوا يلوذون بالسلطة مِن غارة جراد طارئة، أو تفشي وباء أو غارات الحروب، يجدونها أمامهم، كان الوزراء عند النَّائبات يبيتون حيث الكارثة، سواء كانت طوفان ماء يُهدد سدة بغداد، أو كوليرا تجتاح البلاد، لكن مَن يُخرج السلطة اليوم مِن وكرها الأمين "المنطقة الخضراء". 
قطع رئيس وزراء بريطانيا زيارته الرسمية ليشارك شعبه بالتخفيف من هول الصَّدمة بسبب ما فعله متطرفون، وزلزال أعاد رئيس دولة وحكومة قاطعاً إجازته الشخصية، لكن مَن يُخرج هؤلاء مِن قصور الخضراء!
لو عدنا إلى أزمنة الطَّواعين التي اجتاحت مدن وقرى العِراق، لعرفنا كيف صارت الأنهر مقابرَ، والقبر يصير قبراً مراراً، إنها حرفة الموت واحدة، سوى كان بجرثومة طاعون أو شظية قنبلة، أو ذرات ديناميت، غير أن الأصعب والأقسى أن ترى سلطة في شاشات التلفزيونات، ولا تجدها معك على الأرض. سيُقلل الفاجعة لو خرجت هذه السلطة مِن أوكارها وواجهت ما يواجهه منتخبوها، لعرفوا ما هي مؤهلات المسؤولين عن أمنهم وحمايتهم. 
صار العِراقي يُطالب بحق الحياة مِن سلطة لا تجيد فن الإدارة ولا الحماية، ومع ذلك أنها مصرة ماضية في الحكم، بلا اعتذار مِن الدِّماء وهي جارية كالسَّواقي، بلا كلمة: "لقد فشلنا، لا نستطيع حمايتكم"! ومع فداحة الخطب يُرمى حطب الطَّائفية والكراهية في المواقد، لأنها الجدار الذي يتكئ عليه مَن لا يجد معنى لوجوده في السُّلطة بدونها. فسلطة لثمان سنوات لم تحمِ الدِّماء ولم تصن الثَّروات، وصارت قطباً للأزمات، أرى في وجودها ضرراً ما بعده ضرر. ويحضرني ابن الرُّومي (ت 283 هـ): "وأنتم كمثل النَّخل يسرع شوكه/ ولا يمنع الخراف ما هو حاملُ"(الثَّعالبي، خاص الخاص). إنه عصر المآتم وزمان الموت!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. عدنان سلطان

    31-10-2020 سبعة سنوات مرت و الالم والدم و المعاناة مازالت مستمرة متى تنتهي او ننتهي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مدخل لدراسة الوعي

شخصيات أغنت عصرنا .. المعمار الدنماركي أوتسن

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

د. صبيح كلش: لوحاتي تجسّد آلام الإنسان العراقي وتستحضر قضاياه

في مديح الكُتب المملة

مقالات ذات صلة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع
عام

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

علي بدركانت مارلين مونرو، رمزاَ أبدياً لجمال غريب وأنوثة لا تقهر، لكن حياتها الشخصية قصة مختلفة تمامًا. في العام 1956، قررت مارلين أن تبتعد عن عالم هوليوود قليلاً، وتتزوج من آرثر ميلر، الكاتب المسرحي...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram