عندما شاهدت زاخو للمرة الأولى في منتصف الثمانينات، كانت تبدو مثل فصل غير مكتمل من كتب الرحالة الذين بدأوا منها مسيرة شاقة في جبال كردستان، وكان أول من جاءها في القرن التاسع عشر الإنكليزي كونراد بروسير الذي سجل انطباعاته عن هذه المدينة، حيث أخبرنا أن زينوفون أحد تلامذة سقراط زارها ومعه محارب من الأشداء اسمه "اليونزاخاريوس" يقال إن المدينة سميت باسمه.. وقد ختم عصر الرحالة المؤرخ المقدسي الذي اعتبر جسرها "العباسي" من عجائب الارض الأربع.. كانت زاخو حين شاهدتها أول مرة تبدو مجموعة من البيوت تغفو على سفح الجبل، وقبل أيام حين لبيت دعوة كريمة من الوزير السابق محمد إحسان، وجدت مدينة أخرى تشق طريقها بهدوء إلى المستقبل والنمو.. وتحاول ان تكون شيئا من مدن العالم الحديثة.. ولتعوض سنوات الافتقار والحروب والعذاب، بأفق جديد من العمران، وبقايا ممتعة من الماضي، لم يعد ينطبق عليها قول ماركو بولو: " ما ان تخرج من البيت حتى تجد أمامك أفقا واسعا لا إعمار فيه ".. اليوم ثمة إعمار كثير، وثمة أناس يريدون ان يربطوا الحاضر بالمستقبل.
كلما أزور كردستان أسأل لماذا تزدهر مدن كردستان فيما تتراجع أقضية ونواحي تغفو بيوتها العتيقة على بحيرات من الثروة؟ لأن أحداً لم يقرأ ذلك التعريف الجميل الذي وضعه صاحب التاريخ الحميم للإنسانية، تيودور زيلدن " أما الوطن فهو المسكن الذي لا يشترط فيه تفضيل مصالح الساسة على مصالح الناس … لا وطن في حالة الاستبداد.." وكانت حدود الوطن عند الإغريق، هي في المكان الذي فيه حقوق وواجبات.
بعرف صاحب " المقدمة " المدنية بأنها الألفة بين البشر، وسنرى كيف أن الألفة استطاعت ان تحول قرى ظلت تعيش تحت نيران المدافع والطائرات عقودا طويلة، الى مدن تصحو على أشعة الشمس وتنام مطمئنة تحت ضوء القمر.. فيما هناك ملايين في مدن الوسط والجنوب يعيشون تحت خط الفقر.. وملايين بلا منازل، ومثلهم بلا عمل، هؤلاء ظلموا تحت شعار " دولة القانون "، وخطب التنمية التي لم يجدوا صدى لها إلا في تحويل البلاد الى قرية من قرى الماضي.
لقد تقدم رجال بسطاء نحو نشر التنمية، واجد امامي نموذج لسياسي شاب يقرر في لحظة عشق لمدينتة "زاخو" ان يخصص جزءا كبيرا من الأراضي التي ورثها عن أجداده لإقامة مدينة متكاملة.. أنصت إلى كلماته التي تفيض أملا بالمستقبل وأتذكر أهلاً لي في الحيانية والرفاعي والشطرة لا نصير لهم، ولا أثر للعمران.
أسير في شوارع زاخو وأتذكر المعلم ماركيز الذي كتب ذات يوم: الفاشل يغطي عجزه بإثارة الفوضى، ولهذا يصر العديد من الفاشلين ومعهم مريدوهم على عدم الاعتراف بحجم التغيير الهائل الذي يلمسه كل من دخل أبواب مدن كردستان الجميلة.
أتطلع إلى وجوه الناس في شوارع زاخو، فلم أرَ فيها سوى علائم الطمأنينة والأمان، أنا القادم من عاصمة تحتل المرتبة الأولى في مستويات الضجيج والإهمال والبؤس، أجد أمامي مدينة صغيرة ظلت لسنوات طويلة تعيش هاجس الخوف من الغد، حيث كان يحكمها رجال أمن يعدون على الناس أنفاسهم، اليوم يسابق أهلها أنفاس العالم المتحضر، مدينة كانت كل شوارعها ترابية، تصر اليوم على ان تفاجئ زائريها بأجمل البنايات، لم تعد ثمة حاجة إلى الخوف من الغد، لم تعد الناس تخشى المرور من أمام مركز الشرطة، أو ان تتلفت خوفا من خطوات المخبرين ، تصر زاخو ان تقطع المسافة من عصر الى عصر، في سفينة مذهبة اسمها الاستقرار والعمران، ولا يشبه الاستقرار سوى نفوس مسؤولين قرروا ان لا يسمحوا للفقر أن يبقى مقيماً في البيوت والشوارع.
طالما أُسأل، لماذا تكتب باعجاب عن إقليم كردستان، لأن هناك ما يكتب عنه،تأملوا حياتنا، فعن ماذا نكتب، تأملوا معي السفسطة السياسية وغياب العدالة الاجتماعية، ورائحة الكذب التي تخرج من أفواه الساسة، عن ماذا نكتب؟ عن النجاح الأمني الذي حققته جماعة "ما ننطيها"؟! عن الذين يصرون على أن يحققوا لهم ولأهلهم كل شيء، ولم يحققوا أي شيء آخر للوطن؟ عن الدولة التي تخطف فيها المليارات في مشاريع فاشلة.
كلما جئت إلى كردستان عادت ذاكرتي إلى يوم كانت الناس فيها تنام على فشل دائم، فيما هم اليوم يتعاطون النجاح بدلا من معارك المصير.. وتتحول مدنهم إلى واحة آمنة يفزع إليها أهالي بغداد والبصرة والأنبار والديوانية، الخائفون من تقلبات الساسة وصراع المنافع والمناصب.
والان هل من حقي ان اكتب عن مدن كردستان، وان أتمنى على اهلها أن يضعوا خرزة زرقاء على بوابات مدنهم، الآلاف يعملون ويعيشون ولا يرفعون سوى شعار واحد: العمل والمثابرة.
"خرزة" زرقاء على بوابة كردستان
[post-views]
نشر في: 7 يونيو, 2013: 10:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 3
ابو علي الزيدي
نعم أن مدن الأقليم أصبحت تضاهي مدن العالم المتحضر فالف هنيئا لأهلها والذين عملوا على بنائها بتخطيط ومثابرة مستلهمين العزم من مأسي الماضي والحرمان .عكس مدن الوسط والجنوب الذي أبتلى اهلها بحكومات همها الاول والأخير الفساد والسرقة لا أعمار ولا بناء رغم الميز
رمزي الحيدر
الفرق هو أن العملية السياسية في المناطق العربية ، أصبحت غطاء للفاسدين والحرامية و بهذا قد أفرغت من محتواها وهدفها لبناء وطن .
مواطن
والله لك كل الحق..