وضح Boaz Shoshanبواز شوشان في كتابه Poetics of Islamic Historiography – Deconstructing Tabari’s History شعرية التأرخة الاسلامية - تفكيك تاريخ الطبري (دار بريل، لايدن – بوسطن، 2004) بأن الهدف من تأليفه لم يكن الانخراط مرة أخرى
وضح Boaz Shoshanبواز شوشان في كتابه Poetics of Islamic Historiography – Deconstructing Tabari’s History شعرية التأرخة الاسلامية - تفكيك تاريخ الطبري (دار بريل، لايدن – بوسطن، 2004) بأن الهدف من تأليفه لم يكن الانخراط مرة أخرى في إعادة تركيب تاريخ بدايات الإسلام. ويبدو لي أن "مرة أخرى" تشير إلى السرديات التي تناولت تاريخ الإسلام قديماً وحديثاً. ولم يكن هدف الكتاب كذلك الانخراط في ذلك المشروع المعروف عن تثبيت صحة حادثة ما تاريخياً.
فقد قرر مؤلف الكتاب تعلم شيء جديد حول التأرخة [تدوين التاريخ] historiography الإسلامية المبكرة. لذلك يمكننا القول إن الهدف الأساس من تأليف هذا الكتاب هو تقديم قراءة جديدة للتاريخ تعنى بتقديم فهم جديد للافتراضات التي سار عليها الكثير من الذين أسهموا في انتاج هذا التاريخ عبر ما قدموه من سرديات وكتابات يسميها شوشان أحيانا افتراضات تاريخية. فضلاً عن فهم كل ما من شأنه تقويض مثل تلك الافتراضات. هكذا يدخل الكاتب منطقة خطيرة منهجياً وفكرياً وعقائدياً؛ وكما يبدو فإن هذا الأمر ليس تحدياً بسيطاً إذا أخذنا بعين الاعتبار زمن كتابة (تاريخ الطبري) الموضوع الذي يبحثه هذا الكتاب ومعاناة قارئ هذا الكتاب حيث يرزح على الدوام تحت رحمة المصادر "الخالية من العيوب"إذا جاز التعبير، وحق استعمال هذه العيوب في المعرفة التاريخية كما يشير الكاتب. إذ يجب على القارئ التسليم بمواقفها – وهذا الأمر معروف، في الحقيقة، في كل الأعمال التاريخية منذ العصور القديمة إلى أيامنا الحاضرة – ويعني هذا طمس أيّ تمييز بين الواقعة التاريخية والنصّ الذي يتناولها، ومن ثم إنزاله [النص] منزلةالواقع وإنزال منتجه منزلة "مراقب" ذي امتياز لواقع ما لا أكثر من ذلك ولا أقل على حد تعبير شوشان.
ويمكن أن يكون كل ما تقدم أمراً عادياً جداً عندما لا يكون هناك سبب وافٍ لدراسة التاريخ على العموم، بما فيه تاريخ الطبري "بوصفه تاريخاً غير متسم بالمحاكاة، حتى لا نقول ضد المحاكاة"؛ فلهذا السبب ينبغي كشف التاريخ كما يُكشف الفن بشكل عام"1. وهذا ما حاول بواز شوشان عمله في الجزء الأول من هذا الكتاب. فقد حاول، بتعبير آخر، استعمال التغير النظري الحديث في فهم المحاكاةالتي تأخذ في حسابها الكيفية التي ينتج بها العالم بوصفه لغة "يُحتمل أن تستدعي سؤالاً محدداً وتكشف تلك الأعراف التي تنظم وتشيِّئ التمثيلات"2. عالج شوشان كذلك في هذا الجزء الافتراض المحاكاتي الذي يشكل أساس التاريخ لا سيما في الفصل الرابع من هذا الجزء الذي كان عنوانه (صوت الطبري ويده).
ويقودنا هذا الكلام الى تأمل آخر يتعلق بشكل كبير بالجزء الثاني من هذه الدراسة الذي تناول تحليل السرديات التاريخية التي ذكرها الطبري عن واقعة السقيفة بعد وفاة النبي ومقتل عثمان بن عفان ومعركة صفين بين جيش الإمام علي بن أبي طالب وجيش معاوية وأخيراً واقعة كربلاء. فيوضح شوشان أن هذا الجزء لا يقترح فقط مقترباً مختلفاً لقراءة هذه التدوينات التاريخية إذا ما وضعنا في البال أهدافاً أخرى غير "التفكيك"؛ فإنه يقدم كذلك مساهمة أخرى لتقييمنا للكتابة العربية الكلاسيكية على العموم. وهكذا يختلف الكاتب مع باحثين متميزين مثل باريت وفون غرونباوم اللذين استغربا، والكلام ها هنا عن الأدب العربي الكلاسيكي، عندما درسا التراجيديا في الشعر3، من أن الأدب العربي على رغم غناه بوصفه مادة نادرة وغير عادية، "لم يذهب، بجد، باتجاه السرد أو الدراما على نطاق واسع"4. فيخالفهما شوشان الرأي بأن هذا التقييم أسس على تعريف ضيق للأدب قائلاً "لو رمى أحدهما بشباكه الى أبعد من ذلك آخذاً في اعتباره تاريخ الطبري، فسيجد فيه ربما مثالاً واسعاً على الأدب الدرامي المنتج في العصر الإسلامي الكلاسيكي". ولا ينبغي أن يكون الأمر مفاجئاً بالنسبة اليه فهو يعرف بأن دراما التأرخة لا يمكنها أن تقوم مقام دراما الحياة الواقعية في كثير من الاحيان، والتأرخة الإسلامية كما مورست في تاريخ الطبري ليست استثناء من ذلك كما يوضح المؤلف. وعلى سبيل المثال، ينظر شوشان في كتابه إلى دراما صراع الأمين والمأمون أو تراجيديا استشهاد الحسين بوصفهما موضوعين يتعلقان بهذه الدراسة. وزبدة القول، فإن الدراما هي الدراما، سواء نسجتها الحياة الواقعية أم الخيال، وسواء صورها الأدبالمحض أمصورتها أنواع أدبية أخرى كالتأرخة؛ فالمسألة تبقى مسألة تصنيف وليست جوهراً كما يوضح المؤلف في الجزء الثاني من كتابه.
وثمة مسألة أخرى يشير إليها الكتاب وهي أن كتاب الطبري يعد، من غير ريب، ذروة ما وصل إليه التاريخ المقدس (أو التاريخ الكلاسيكي أو أي وصف آخر) الذي أنتجه العصر المؤسس للإسلام. ويعتقد شوشان بأن شعريته التي حللها في هذا الكتاب فيها الكثير من شعرية هذا النوع من الدراسات. ولكن المسألة، بحسبه، هي الكيفية التي تمكن بها دراسة تاريخ الطبري في سياق أوسع؛ سياق يتضمن ليس فقط التأرخة الإسلامية المدونة قبل عصر الطبري بل أجيالاً بعده. ولاعتبارات أخرى، لم تكن هذه المسألة، التي لها صلة وثيقة بهذا الموضوع بخاصة، مركزية في هذا الكتاب. وكما يوضح شوشان فقد عُدَّ كتاب الطبري حداً فاصلاً تأسس عليه أن تأرخة القرون التالية له، على سبيل المثال، قد قدمت أشياء جديدة ومشاريع مختلفة. الأمر الذي حدا بطريف الخالدي أن يصفه بكتاب حكمة، والخالدي كما يشير شوشان يربط في كتابه تاريخ الطبري بدراسة الحديث، ويزاوج بين كتابة تاريخية من جيل متأخر مثل كتاب المسعودي (ت. 345 / 956) أو من قرن متأخر مثل كتاب ابن مسكويه (ت. 420 / 103) وبين نوع علمي مختلف5. وفي الحقيقة فإن أي "علم" غير ديني له صلة بالفلسفة الكلاسيكية وبما يسمى بالعلوم الطبيعية. فينبغي على هذا التأليف الجديد المنحوت من حقول علمية مختلفة، أو على الأقل يُتوقع منه ذلك، الاطلاع على شكل التأرخة ومضمونها.
ولا تحتاج الكتابة التاريخية عند المسعودي،كما يخبرنا شوشان، ولا سيما كتابه مروج الذهب ومعادن الجواهر الذي أثار الكثير من الاهتمام الى مناقشة مفصلة في هذا الكتاب. إلا أن ما له صلة بهذا الموضوع وتجدر الإشارة اليه، حسب المؤلف، هو الكيفية التي يتبيّن خلالها المنظور الذي اعتمدته هذه الدراسة وهو اختلاف المروج وتشابهه مقارنة بالتاريخ. فمن ناحية الاختلاف، تسهل ملاحظة أن المسعودي تخلى عن الأخذ بمنهجية الحديث إلى حد كبير، كما بيّن الخالدي وآخرون، فلم تعد هوية المصدر جزءاً من النص فيختفي نموذج الإسناد الشهير في الدراسات التاريخية عنده. وللتمثيل على ذلك بمثال ملموس حسب شوشان، فبينما يكرس التاريخ عشرات الصفحات لواقعة كربلاء، لم تأخذ تلك الواقعة سوى أقل من عشر صفحات من المروج6.
ولا يمكن الجزم تماماً بأن الإيجاز عامل مؤثر في السرد عند المسعودي. بل وكما يقول شوشان "إنني أشك في أن للشكل علاقة فعلية كبيرة بالمحتوى، كما يروق لهايدن وايت قوله". وكيفما كانت الأسباب، فقد أنزلت كربلاء المسعودي موقع الحسين، أو بطل السرد ، إلى الهامش تماماً. ولذلك فليس هناك أدنى شك في أن قراءة كربلاء بوصفها تراجيديا، التي يخبرنا نص الطبري عن احتماليتها الواسعة، ليست لها علاقة بموضوع الواقعة في المروج. فرواية المسعودي عن قصة استشهاد الحسين، في ما يخص فضاءها ومقوماتها، رواية مختلفة تترتب عليها آثار مختلفة جداً على حد تعبير المؤلف.
ولا يعني ذلك، إذا ما تعمقنا في شأن الشعرية، أنه ليست هناك عناصر منها توجد في عمل المسعودي كما يوضح شوشان في موقع آخر. فلا غرابة إذن، في رأيه، في وجود قضية تتسم بالمحاكاة؛ فإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن أن تختفي من الكتابة التاريخية؟ وهكذا إذا ما بقينا في حادثة كربلاء سنحصل على تفاصيل مسلم بن عقيل مبعوث الحسين إلى الكوفة (تكررت هذه مرتين في فقرة مختصرة)، وكيف حاصره جنود بني أمية عندما كان حائراً يتجول في أزقة المدينة الى أن وجد ملتجأ. وبعد ذلك، اكتشِف أمره فحاول أن يشق طريقه بالسيف لكنه جُرِح كما يصفه النص الذي يصور، بشكل محاكاتي، محاولة مسلم لشرب الماء وكيف أن الدم الذي كان ينزف من فمه اختلط مع الماء. وكذلك استعمال الاستشهادات الحرفية في الحوارات وتقارير شهود العيان والراوي كلي العلم واقحام الشعر لعكس أفكار عامة، كل ذلك يبرز في وصف كربلاء عند المسعودي كما هي الحال في تاريخ الطبري.
احتوى كتاب شوشان على ثمانية فصول توزعت على جزءين. اهتمت فصول الجزء الأول بالتركيبة السردية في كتاب تاريخ الطبري عموماً. فقد جاء الفصل الأول، على سبيل المثال، نقداً لدراسات طيب الهبري ولا سيما دراسته " اعادة تأويل التأرخة الاسلامية: هارون الرشيد وسرد الخلافة العباسية" (كامبريدج، 1999) الذي انتهى فيه الى أن التأرخة الاسلامية بعيدة كل البعد عن الحقيقة؛ فقد كانت، حسب الهبري، قصصاً تدور جلها حول الحكام. وينتقد شوشان منهج الهبري في أنه يتجاهل المدى الذي كانت كتابات مؤرخو الإسلام القدامى تغطيه وحاولوا عبر ذلك المدى من الاهتمام بتفاصيل مهمة أخرى اقترب سردها من الحقيقة. فقد وردت في كتاباتهم قصص أو سرديات لا تهتم فقط بالملوك والحكام وانما بفضاءات أخرى اتسعت باتساع الحياة، الأمر الذي ناقشه شوشان في الجزء الثاني من كتابه الذي اهتم بأحداث ووقائع مفصلية ذكرها الطبري ومؤرخو الاسلام سبق أن تعرضنا لبعضها خلال هذه القراءة التي اهتمت في المقام الأول بشعرية السرد في تاريخ الطبري.