منذ ايام والشباب في دسك الأخبار يحدقون بكوميديا سوداء في إطار العلاقة بين تنظيمي القاعدة في العراق وسوريا. فصاحبنا العراقي "أبو بكر البغدادي" أعلن من طرف واحد دمج جبهته البغدادية مع جبهة النصرة. لكن الأمر اثار سجالاً واسعاً رصدته وكالات الانباء، إذ سارع الجولاني وهو أمير القاعدة في الشام، الى الاستغاثة وطلب تخليصه من وصاية الجناح العراقي "لأنه متوحش أكثر مما ينبغي"! الى درجة ان شيخهم الظواهري اضطر للتدخل و"فض الزعل" بين التنظيمين وأصدر حكما يخطّئ فيه البغدادي "ونهجه" ويعترف باستقلال الأخ الجولاني وتحريره من وصاية العراقيين "المتوحشين بأكثر مما ينبغي"!
وكيف لي ان أتخيل ذلك؟ وهل هناك قاعدة متوحشة وأخرى اكثر توحشاً؟ ولماذا تصبح "الأكثر توحشا" من نصيب العراقيين الذين يخضعون لحكومة هي "الأكثر فشلا وادعاءً فارغاً"؟ وما هو المناخ الذي ساد في "بانثيون الآلهة" وجعلها تصمم لنا هذا النصيب يا ترى؟
السوري يرى ان قاعدتنا اكثر وحشية وأن نهج أميرها البغدادي لا يمكن القبول به. البغددة صارت عنوانا للإرهابي الأكثر تطرفاً، بينما كان "التبغدد" حتى وقت قريب، دليل ثراء وترف وذوق رفيع وأدب جم، كما يقول شامي آخر هو جورج طرابيشي الناقد والباحث المعروف، أثناء دراسته المشهد الثقافي في بغداد العباسية.
ترى ماذا فعلت بنا حماقة أجيال من الجلادين الغلاظ الذين سلبوا البلاد "بغددتها" ويسروا فيها كل سبل التشدد على مستويات كثيرة؟
و"البغددة" لم تصبح عنوانا للقسوة بالنسبة الى منتجاتها العنفية وحسب. بل ان رسالة قديمة توضح ان المقاتلين العرب في القاعدة كانوا يصبحون "أكثر تطرفاً" حين يعملون فترة في العراق. وأتذكر ان صاحبنا الظواهري نفسه بعث برسالة عام ٢٠٠٦ الى قاعدة العراق يقول فيها ان عليهم ان يحذروا من أبي مصعب الزرقاوي "لأنه صار متطرفاً جداً"!
واتركوا لمخيلتكم ان تعمل بعض الوقت لتتصوروا مدى الهول حين يشعر شيخ التطرف الأكبر الظواهري، بالحذر والخشية من تشدد الزرقاوي!
ولعلنا بعد نصف قرن من الخلل العميق في كل شيء، ورثنا تركة أخلاقية ثقيلة في أرواحنا تفرز مستويات التطرف الأشد في مستويات عدة. وقبل أيام سهرنا مع رجل أعمال عربي وجاء الحديث عن الفساد في المشاريع، وأنه أمر مألوف في كثير من البلدان لكنه لم يؤد الى جمود البناء والإعمار بالضرورة، كما يحصل في الفشل العراقي. الرجل يقول ان الفساد في العراق نموذج "متطرف جدا واستثنائي" لأنه ارتشاء من اصل كلفة المشروع، لا مجرد حصة من أرباحه الوفيرة. ولأن أعداد الفاسدين في كل مشروع اكثر مما ينبغي بكثير. ولأن الفاسدين "يتطرفون" في نقل المال الى خارج البلاد ولا يحولونه كما يفعل نظراؤهم الفاسدون في المنطقة، الى مشاريع "مفيدة" في داخل البلاد نفسها ليخف اثر الفساد وتتحجم بعض مخاطره.
ولعل في وسع القارئ ان يستحضر أيضا نماذج عديدة لروح التطرف التي بدأت تسود في بلادنا، متأثرة بحماقة أجيال من الجلادين الغلاظ الذين سلبوا البلاد "بغددتها" ويسروا فيها كل سبل التشدد على مستويات كثيرة.
الداء في جزء أساسي منه، عيب داخلي يفاقم أعباء أية محاولة إصلاح تجري في السياسة والاجتماع. وإصلاح الداء هذا ليس أمراً يرتقي الى مصاف المعجزة، بل أزمة مرت بها أمم كثيرة في لحظات انتكاسها، ونجحت في تجاوزها لاحقا حين ادركت الخلل بشجاعة ولم تحمل الأغراب مسؤولية خرابها الداخلي وتنام في وهم "النقاء والكمال".
وقد حدثتني صديقة جاءت من ايران لتوها عن ظروف الناس هناك. وهي ممن يمتدح ويثني على اللياقات الأخلاقية المعروفة عن أبناء المدن العريقة كأصفهان وشيراز، وولعهم بالإتكيت والفنون. لكنها لمست هذه المرة ان شيئا من التكدر بدأ يخيم على الصورة القديمة. ونقلت عن سيدة إيرانية ان الجميع هناك بدأ يشعر بأثر الأزمة في السياسة والاقتصاد، والتي قامت بتطوير أشكال الظلم ولخبطت مزاج الشعب بشكل ينذر بسوء.
ان أرواح الناس مرآة تعكس التدهور على وجه السرعة، وكلما غرقت الأمة في حيف واستلاب، تكدرت مرايا روحها، وصارت مرتعاً للصور المبالغ في تطرفها. ولذلك فان وقف حماقات السياسة وعودة الشعور بالكرامة، بداية لغسل مرآة الروح الاجتماعية. ولا يفوتني في النهاية ان أتضرع للسماء كي تساعد "الجولاني" على تطرف "البغدادي" وتكفينا شر الاثنين.
"وحشية البغدادي" واستغاثة الجولاني
[post-views]
نشر في: 11 يونيو, 2013: 10:01 م