يقول الباحث والكاتب ماثيو كوب، ان هناك تناقضاً ما بين الثورات في العصر الرقمي الحالي وتلك العقود الزمنية التي سبقتها.فمن الصعب تقدير ما يحدث في منطقة ما عند نشوب ثورة أو انتفاضة ما-كما يحدث في سوريا- بدون اللجوء الى أجهزة التصوير والبث المباشر على مخ
يقول الباحث والكاتب ماثيو كوب، ان هناك تناقضاً ما بين الثورات في العصر الرقمي الحالي وتلك العقود الزمنية التي سبقتها.
فمن الصعب تقدير ما يحدث في منطقة ما عند نشوب ثورة أو انتفاضة ما-كما يحدث في سوريا- بدون اللجوء الى أجهزة التصوير والبث المباشر على مختلف القنوات التلفازية، ولكن أول عصيان لوسائل الإعلام حدث قبل 70 سنة، في باريس.
لقد غيّر الانترنت من كيفية مشاركة دول العالم في تتبع الأحداث السياسية العالمية يوماً بعد يوم، ولكن معظم الطرق المتعلقة بكيفية تحقيق الفوز في مثل هذه المعارك ذات العلاقة بتحقيق فوزها في نقل الأخبار، جرت في فرنسا، من قبل إعلام المقاومة الفرنسية، ومن بينهم أسماء معروفة مثل روبرت دوسينو وهينري كارتير بريسون.
فعندما نجحت قوات الحلفاء من تجاوز الخطوط الألمانية في منطقة نورمندي، في آب 1944، هربت القوات الخاسرة من المدينة، ليحل مكانها جموع الصحفيين والمصورين-الصحفيين والسينمائيين- إضافة الى مراسلي الإذاعات الخاصة بفرنسا الحرة، من اجل ملء الفراغ الذي حدث.
ولكن مع التهديد بهجوم من الدبابات على مكاتبهم، كان على الصحفيين الانتظار أربعة أيام، قبل ان تصدر صحفهم الأولى –وكلها بتصميم واحد ولا يتعدى حجمها صفحة واحدة فقط، وسعرها موحد ايضاً، وكانت تلك الصحف تباع في الشوارع، وفي الغالب امام القوات الألمانية، التي فقدت قوتها، وقد حققت تلك الصحف نجاحاً وبيعت كافة نسخها للقراء المتعطشين الى الأخبار –حتى لو كانت بعضها كاذبة، اما الصور التي تطبع فيها فكانت بائسة، غير واضحة، ولذلك بدأ نوع من العصيان، وطالب عدد من المصورين المعروفين بتجميع مصادرهم وتقسيم المدينة بينهم، وهكذا بدأت المقاومة الفرنسية في اطلاعهم على العمليات التي تقوم بها، للتهيؤ والتقاط الصور لخطة بعد أخرى، وتم التقاط الاف الصور الفوتوغرافية لتلك الأحداث المهمة، من قبل مصورين باريسيين، التقطوا أجهزة التصوير وأفلامهم (التي كانت نادرة في زمن الحرب) ثم توجهوا الى ساحة القتال من اجل تسجيل الأحداث التاريخية، وبعض تلك الصور يمكن اعتبارها من الأعمال الفنية، وبعضها الاخر مجرد لقطات عادية.
وانضم الى تلك الحملة، عدد من المصورين السينمائيين، وانجزوا الاف الأفلام التي تصوّر المعارك، التي كان عرضها يستغرق 30 دقيقة، وترسل للعرض حول العالم.
وكان العنصر الأخير في هذا العصيان هو راديو باريس، الذي كان صوت حكومة فيشي الفرنسية، ولكنه سرعان ما غدا صامتا بعد انهيار التحالف، وفي مساء الـ 21 من آب، انطلقت اخيراً اصوات المقاومة عبرها لتبث الأخبار والتقارير الخاصة بالعمليات الحربية وايضاً مقابلات مع عناصر المقاومة وقادتها مع استمرار أصوات البنادق والمدافع التي ترافق الاحاديث.
وخلال تلك المرحلة، كان العنصر الأهم في الإعلام هو المقدرة على تنظيم وتحريك سكان تلك المناطق، ولعب الراديو دوراً مهماً في اطلاق نداءات لمساعدة السكان في نقاط السيطرة وإعلان سكان باريس، عن الأماكن التي تدور فيها المعارك، وايضاً عن حركة القوات الألمانية، كما ان الصحف كانت تكتب ايضاً عن كيفية التهيؤ للقتال، وتعليمات عن صنع قنابل مولوتوف، وأين يأخذون الجرحى.
وقد بدأت خدمة الجيش الفرنسي الحر على الـ (بي بي سي) في طريق عام 1940، وفي الـ 23 من آب، أعلنت بياناً كاذباً عن تحرير مدينة باريس، فوجئ الفرنسيون وذهلوا –إذ كانت الدبابات الألمانية لاتزال في الشوارع، ومئات من الناس يقتلون او يصابون بالجراح، كما ان هذا الخبر أدى الى غضب –مركز قيادة الحلفاء.
وذلك البيان الكاذب، انتشر في العالم اجمع، ودقت الأجراس من نيويورك الى مانجستر، في حين امرت قيادة مجلس الحرب تنظيم احتفال في كنيسة سانت بول، وفي اليوم التالي اعلن ان ما حدث كان بسبب خطأ في الترجمة، ثم تبين ان الأمر لم يكن خطأ، اذ ان رئيس الدعاية لحكومة فرنسا الحرة، كان قد أمر بذلك من اجل تحفيز الحلفاء على الاقتراب من باريس وتحرير العاصمة الفرنسية. واستمرت محطة بي بي سي انفاسها في اليوم التالي مع بدء التحرير، وفي مساء الـ 24 من آب، اعلن راديو المقاومة، بدخول رتل مسلح من المقاومة الحرب قلب باريس، ثم دعت الكنائس في المدينة لدق أجراسها معلنة الاحتفال بالتحرير.
و خلال ذلك الحدث، كانت وسائل الإعلام الفرنسية تؤدي واجبها. وفي 26 من آب، سار الجنرال ديغول وقادة المقاومة الفرنسية، في شارع الاليزية، في ظهيرة ساخنة جداً، ترافقهم الدبابات وتحوطهم حشود من الناس لم تر باريس مثلها من قبل، وتم التقاط العشرات من الأفلام الإخبارية عن مسيرة ديغول التاريخية تلك، إضافة الى المئات من المصورين الفوتوغرافيين، وتلك الصور المفرحة، نقلت الى العالم اجمع، للتعبير عن فرنسا الحرة.
وهكذا كان الحال، وكما هو اليوم، فان الإعلام لا يسجّل الأحداث فقط بل يساعد في تشكيلها.
عن الغارديان