"هنا وقف معلمي وليم فوكنر....."، بتلك الجملة بدأ غارسيا ماركيز خطابه بمناسبة تسلمه للنوبل عام 1981، ليشير أنه لم يتعلم من أستاذه كتابة الرواية وحسب، بل وبالكتابة عن المسحوقين، الأميركي فوكنر، صاحب "الصخب والعنف"، و"ضوء في آب"، وقف إلى جانب تحرير العبودية التي كانت سائدة في الجنوب الأميركي في أيامه، وماركيز وقف إلى جانب مسحوقي قارته التي وصفها في خطابه ذلك، بالمنسية، وبأنها تعيش عزلتها منذ مئات الأعوام.
أما الجملة التي قرأناها مرة على لسان سيمون بوليفار في رواية ماركيز "الجنرال في متاهته" والتي تقول "نحن جنس بشري صغير"، فنعثر عليها هذه المرة في جميع خطابات ومداخلات ماركيز عند الحديث عن أميركا اللاتينية، رغم إنه غالباً ما يلحق به جملة أخرى تقول، بأن الجنس البشري الصغير هذا هو "أول إنتاج عالمي للمخيلة الإنسانية المبدعة"، و "لاندماج السينما والأدب" أيضاً. قلقه المتعلق بقارته مبثوث في كل سطر من مداخلاته تلك سواء في حديثه عن الديكتاتوريات أو عن تجارة المخدرات، بل نعثر عليه حتى في حديثه عن البيئة. أما التربية العامة فهي بالنسبة له سلاح فعال ضد التهميش الاجتماعي: "الفقر والظلم لم يتركا لنا وقتاً طويلاً لنتعلم دروس الماضي ولا التفكير بالمستقبل".
في جواب قديم للصحافة على سؤال "لماذا تكتب"، قال ماركيز أنه يكتب "لكي يفرح الأصدقاء"، أحد هؤلاء الأصدقاء الحميمين لماركيز هو الكتاب الكولمومبي المشهور (وإن ليس بشهرة ماركيز) الفارو ماتيس والذي يكتب عنه ماركيز في الكتاب أيضاً. "الفارو ماتيس وأنا عقدنا معاهدة ألا يتحدث للرأي العام أحدنا عن الآخر، لا بالمديح ولا بالذم، كان ذلك القرار مثل لقاح طبي ضد المديح المبالغ به عندنا نحن الاثنين إزاء بعض"، في عام 1993 وفي عيد ميلاده السبعين كسر الفارو ماتيس وصديقه المعاهدة تلك. حسب ماركيز كسر صاحب "ماركول" المعاهدة قبله، لماذا؟ الجواب لا يخلو من طرافة، لأنه" لم يعجبه الحلاق الذي اقترحت عليه الذهاب إليه". ثم يروي ماركيز رحلة ماتيس معه للسويد وحضوره حفل تسلمه الجائزة، وبنفس الروح الساخرة التي دمغت ماركيز علاقاته مع الأصدقاء، يكتب عن الفارو موتيس الذي صحيح إنه "لم يجيد رقصة البوليرو" في ليلة حفل النوبل في استوكهولم، إلا إنه ماركيز مدين له، لأنه أعاره كتاب "بيدرو بارامو" الذي علمه الكتابة عن عالم مختلف.
في رثاء لاحق للكاتب الأرجنتيني خوليو كورتازار تحدث صاحب ماركيز، كيف أن "الإنسان الأكثر إثارة للانطباع" الذي تعرف عليه في حياته هو خوليو كورتازار، وحسب ما قال كريستوبيل بيرا، أن النص هذا هو أحد نصوص ماركيز المفضلة، "كل مرة عندما يقرأه من جديد تنتابه مشاعر جياشة".
خطاب آخر مفضل عند الكاتب هو "من أجل ما يلزم أن يكون عابراً"، خطاب في الحقيقة لم يخلُ من الاستفزاز ألقاه ماركيز في كولومبيا أمام حشد كبير من الأكاديميين المتخصصين باللغة القتشالتية: "لنحيل الأبجدية اللغوية للتقاعد، رعب الجنس البشري منذ المهد... ". خوزيه أنتونيو باسكوال نائب مدير الأكاديمية الملكية الأسبانية لا يزال يضحك كلما تذكر الكلمة الاستفزازية تلك التي هدر فيها صوت ماركيز وهو يشنع بالنحو والقواعد، بالنسبة له الموضوع يدخل في باب الطرافة أكثر منه بصفته خطاباً مضاداً لما هو أكاديمي، "في حقيقة أنه بيان أكاديمي للدفاع"، كما يقول باسكوال، "لم يثر الفضيحة"، بالنسبة له حصل ذلك في تاريخ اللغة القشتالتية مرات عديدة، "منذ روبين داريو، إنه تقليد قديم. إذا لا تستفز، يظل الخطاب هشاً". باسكوال الذي عمل أيضاً على تصحيح النسخة الجديدة من مائة عام من العزلة يؤكد كيف أن ماركيز مر على بروفات الرواية وعلى عكس ما ادعاه في خطابه، "كان حريصاً على خلوها من الأخطاء كما هي القواعد"، رغم أن المسؤول عن كتابه الجديد، "لم آت لإلقاء خطاب" الأسباني كريستوبيل بيسكوا أكد بأن ماركيز ترك خطاباته ومحاضراته كما كانت عليه في وقت كتابتها، حتى كلمته التي كتبها وعمره 17 عاماً لم يغيرها، بل حتى الفواصل والنقاط بقيت على حالها.
ماركيز من خطابه في النوبل حتى اختفائه الأدبي
[post-views]
نشر في: 11 يونيو, 2013: 10:01 م