TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > أستاذ الفلسفة وعابر البوسفور

أستاذ الفلسفة وعابر البوسفور

نشر في: 12 يونيو, 2013: 10:01 م

افكر الآن بمدرس الفلسفة الأوربية الذي يدق طبول التشدد في طهران، والوضع في ساحة تقسيم اسطنبول. وهي سوانح تدفع للتأمل في مآلات "الاسلام المدني" الذي تراهن مراكز ابحاث معروفة على امكانية ان يقدم نسخة من الدين السياسي تقبل صيغة التعدد وتدخل سوق العولمة ومعاييره. والمسألة تجعل رفسنجاني وقبل يومين فقط من انتخابات محبطة، يحاول اللجوء الى ذاكرة حرب العراق لتذوق اوقات "اقل سوءا".
ان ما يحدث مع اردوغان محنة لمحاولات التحديث. فبينما يحرص رفيقه عبد الله غول على تصميم رسائل تهدئة ووعد بالمراجعة، يخرج رئيس حكومة حزب العدالة عن طوره ويمسك بمكنسة التشدد قاطعا جادة استقلال وخائضا معركته مع شباب تقسيم الذين لن يتوقفوا عن التمسك بشكل حياة مشابه لما يتاح في طوكيو وشيكاغو وباريس.
وهذه لحظة حزينة تجعلنا نرتاب في ان الوقت قد حان حقا لظهور تحديث ديني قوي يتعامل ببراغماتية القرن ٢١، وتهدد بخسارة اردوغان كنموذج يستعين به الخبراء لرسم سيناريوهات سعيدة لمستقبل الاسلام.
استفادت تركيا من موقعها وعبرت البوسفور نحو اوربا، وتخلصت من تلك العزلة التي تحتجز طهران وراء هضبة زاغروس. ولا شك ان اللقاء مع قوة التحديث الغربي على شواطئ المتوسط شجع حتى الاسلاميين على التكيف مع الواقع التعددي للعالم المعاصر. وبالتأكيد فان هذا الواقع سيظل يشجع الاسلام هناك على مواصلة جهود الاصلاح، الا ان الاخطاء التي يرتكبها رأس الحزب ستفوت فرصاً عديدة هي اهم بكثير من اندفاعات رجل يشعر بالقوة وبدفء راديكالي جديد تسبب به "صيف العرب".
والوضع لا يزال غرائبيا خلف هضبة زاغروس، التي ظلت نموذجا حزينا لخيبات التحديث. والجرائد في طهران مشغولة بمدرس الفلسفة محمد تقي مصباح اليزدي. انه آية الله متميز، يشنّ حملات متواصلة على كل طرف معتدل ويدافع عن اكثر الخيارات تطرفا، ويحرص على ان يبدو اكثر راديكالية من فريق المرشد خامنئي.
لكن صورة مصباح يزدي ظلت في ذاكرتي مرتبطة بالفلسفة الحديثة. ففي حوزة قم حيث يتملكنا الملل أحيانا من فخامة النصوص العتيقة والساحرة، كنا نهرع الى كتاب "المنهج الجديد في تعليم الفلسفة" الذي وضعه الشيخ مصباح لنقد الفكر الغربي وشيطنته. الكتاب عرفنا على ديفيد هيوم وليبنتز وهيغل ووليم جيمس وكانط وديكارت، مع مقارنات بابن رشد والكندي وصدر المتألهين. لكنني لم أكن تلميذا نجيبا للشيخ مصباح، فكتابه وبدل ان يجعل مني مناوئا للافرنجة كما يريد الاستاذ، صار لي كقارئ مبتدئ، مدخلا نحو قراءة اوسع للفكر الحديث وجعلني مولعا بالبحث عن مكان لروح الشرق وتراثه العظيم، في منظومة الوعي الغربي النقدية التي تتيح لبني البشر قوة تصالح رهيب بين ألواننا وأجناسنا مثل كرنفال يحتفي بالهجنة والتنوع.
الفلسفة اخذت استاذها الى اقصى التطرف، وجعلت من تلاميذ كثيرين مثلي، يتساءلون عن السر في ان مصباح لم يطرب لصوت الحضارة الهادر ولم تخفف من غلوائه كراديكالي، وظل من اقسى الناس على الاعتدال الذي مثله اصلاحيو ايران.
ان مصباح يزدي نموذج يشعرنا بالاسى لاصرار اسلامي على القتال حتى اللحظة الاخيرة والمغامرة بكل شيء. وهذه ليست مقارنة بين المهندس المدني اردوغان ومدرس الفلسفة. لكن المحنة تتزايد خلف مرتفعات زاغروس التي ساهمت في حماية التمدن الإيراني، لكنها شجعت على عزلته وبقائه رهن الجمود السياسي.
لقد ألقى رفسنجاني الاثنين خطابا مقتضبا، وراح كشيخ مخضرم يسرد نبوءته: "التيار المتطرف في ايران يستنسخ السنوات الثمانية الماضية في انتخابات الرئاسة ليطيل عزلتنا الدولية عقدا آخر". وهو يشير الى آمال خبت في اقتراع ٢٠٠٥ يوم انتقلت الرئاسة من مرونة خاتمي الى خلطة نجاد الشائكة، وانتهت ببلاد فارس الى دولة عاجزة عن بيع نفطها، تقايض الفستق بالقمح بسبب نقص المال، ومتورطة بصراعات لا نهاية لها في حقول الزيتون البعيدة.
وحين شعر رفسنجاني ان المستمعين يرغبون بالبكاء لشدة الحزن على هذا المصير، ولأن امامهم ٨ اعوام اخرى من الانسداد، اكتفى بالقول: لقد مرت بلادنا بظروف اسوأ ونجحت في تجاوزها. حربنا مع العراق كانت اقسى. لو توفرت الحكمة سنكتشف ان فرصة الانقاذ لا تزال قائمة.
ان هذه حلقة كئيبة ظلت تنغلق عند عبور البوسفور او خلال درس الفلسفة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. قاسم عبد اللة

    الاسلام السياسي والاسلام المدني كلاهما وجهان لعملة مزيفة وفاسدة وسيقودان المنطقة الى الخراب المؤكد.... بل ان المنطقة وفي اجزاء كبيرة منها وصلت الى الخراب وللة الحمد مثل ماتبقى من العراق ومصر وتونس وليبيا وسوريا وايران والحبل على الجرار ولا حول ولا قوة الا

يحدث الآن

عمليات بغداد تغلق 208 كور صهر و118 معمل طابوق وإسفلت

أسعار الصرف اليوم: 143 ألف دينار لكل 100 دولار

ترامب: أوقفتُ 8 حروب وأعدتُ "السلام" للشرق الأوسط

الأنواء الجوية: انتهاء حالة عدم الاستقرار وطقس صحو مع ارتفاع طفيف بالحرارة

حصار فنزويلا ينعش النفط… برنت وغرب تكساس يقفزان في آسيا

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

السيد محمد رضا السيستاني؛ الأكبر حظاً بزعامة مرجعية النجف

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

 علي حسين منذ أيام والجميع في بلاد الرافدين يدلي بدلوه في شؤون الاقتصاد واكتشفنا أن هذه البلاد تضم أكثر من " فيلسوف " بوزن المرحوم آدم سميث، الذي لخص لنا الاقتصاد بأنه عيش...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان دهوك.. 12 عاماً من النجاح

 علاء المفرجي يعد مهرجان دهوك السينمائي مجرد تظاهرة فنية عابرة، بل تحوّل عبر دوراته المتعاقبة إلى أحد أهم المنصات الثقافية في العراق والمنطقة، مؤكّدًا أن السينما قادرة على أن تكون لغة حوار، وذاكرة...
علاء المفرجي

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

لطفيّة الدليمي هناك لحظاتٌ تختزل العمر كلّه في مشهد واحد، لحظاتٌ ترتفع فيها الروح حتّى ليكاد المرء يشعر معها أنّه يتجاوز حدود كينونته الفيزيائية، وأنّ الكلمات التي كتبها خلال عمر كامل (أتحدّثُ عن الكاتب...
لطفية الدليمي

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

رشيد الخيّون حصلت أكبر هجرة وتهجير لمسيحيي العراق بعد 2003، صحيح أنَّ طبقات الشعب العراقي، بقومياته ومذاهبه كافة، قد وقع عليهم ما وقع على المسيحيين، لكن الأثر يُلاحظ في القليل العدد. يمتد تاريخ المسيحيين...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram