جعلني الأصدقاء أتلقى "التهاني" نهار السبت بعد حصول التيار الصدري وكتلة متحدون على منصبي محافظ بغداد ورئيس مجلسها وهو ما جاء مباشرة بعد فوز المجلس الأعلى بمنصب محافظ البصرة وفي موازاة تغييرات دراماتيكية في معظم الحكومات المحلية انتهت بتغيير وتداول للسلطة لم يكن أحد يتوقعه بهذا المستوى ليلة ٢٠ نيسان الماضي حيث جرى الاقتراع.
وفي الحقيقة فان ما حصل من تغيير يستحق أكثر من تهنئة لعموم الوضع العراقي. وربما كنت واحداً من اكثر الذين تعرضت تقديراتهم للسخرية والنقد القاسي منذ لقاءات أربيل والنجف العام الماضي، حين كنت أحاول الانحياز لسيناريو يتبلور ضمنه تيار شيعي مختلف قادر على إعادة وصل الجسور التي تهدمت مع الأطراف العراقية الأخرى بعد انسحاب الأميركان. وظل كثير من المراقبين يشككون بإمكانية ان ينجح منافسو المالكي في تصميم خطة كبح للجماح، او تحقيق تداول سلمي للسلطة، ساخرين من كل ما تم من تنسيق في أربيل والنجف، ومهوّنين من أهمية نتائج الانتخابات المحلية الأخيرة، الى ان اثبت رجال ونساء شجعان قدرتهم على حماية التعدد وإعادة الاعتبار لجملة من قواعد الشراكة وجاء على شكل درس بليغ لشعارات "حربية" تغنت بها كتلة دولة القانون شهوراً وهددت باكتساح الجميع وتحطيمهم وتندرت بعجزهم ومسكنتهم، قبل ان تفاجأ بحصيلة الأسبوع الأخير.
لكن أية تهنئة تمثل جزءاً من الوقائع السياسية الراهنة فقط، والتغيير الأخير يستبطن تحديات اكبر. فصحيح ان هناك درساً قاسياً تحملته دولة القانون ونأمل لها كطرف وطني له ثقله الجماهيري بدون شك، ان تتخذه مناسبة لإجراء مراجعة داخلية جريئة ستكون في صالحنا جميعا. إلا ان الأطراف الأخرى أصبحت أيضا أمام مسؤوليات خطيرة تتعامل معها للمرة الأولى ربما.
فطيلة سنوات كان الصدريون والمجلس الأعلى وأطراف القائمة العراقية يلقون باللائمة على فريق المالكي السياسي والعسكري خلال توصيفهم للوضع السيئ في المحافظات وبغداد. وهاهم اليوم يحصلون على حزمة مناصب حساسة دفعة واحدة، والمنصب المهم جائزة وورطة في الوقت نفسه، فرحة واختبار جسيم لا بالمعنى السياسي وحسب بل بالمفهوم المدني الأوسع.
لن تنجح (متحدون) كثيرا اذا تمسكت بلغة الشكوى القديمة وظلت عاجزة تنتظر فرجاً لن يأتي. ولن تنجح اذا استسهلت فكرة أنها تمثل مكونا يتعرض للتهميش والإقصاء ومحاولات الإفشال. الابتكار المطلوب اليوم ان تنجح (متحدون) في العمل المشترك مع المحافظ الجديد وتضع نصب أعينها أولويات واضحة يمكن القتال من اجل إنجاحها ودفعها بطعم التغيير الجديد الحاصل.
ولن ينجح الصدريّون في بغداد، ولا المجلس الأعلى في البصرة، اذا ظلوا مقيدين بظروف ما قبل هذا التغيير، وفي الحقيقة فان هذا اخطر تحدّ يواجهونه طيلة السنوات الماضية، اي تسلم السلطة العليا في مدينتين تمثلان ثقلا سكانياً ومالياً وسياسياً مع تنوع ثقافي وديني وأيديولوجي، وتستقطبان استثمارات واعدة، مع وضع خدمي سيئ مشابه للمحافظات الأخرى طبعاً.
ان "حكم بغداد" و"مفاتيح البصرة" اختبار كبير يمكنه ان يجعلنا نلغي كل أسباب الفرح، او يشجعنا بشيء من الحظ، على المزيد من التفاؤل بالتطورات السياسية والثقافية التي عبر عنها أداء القيادات الشابة في المجلس الأعلى وكتلة الأحرار.
انحاز الحزبان المذكوران للتعدد والشراكة طيلة الشهور الماضية، وكان الخصوم يتوقعون ان تنقلب تبعاتها ضد الصدر والحكيم، لكنها تمخضت عن معنى مهم للعملية السياسية برمتها. إلا ان المسؤولية تتزايد في هذه اللحظة على طاقم الزعيمين الشابين، وهما يبدآن حقبة مختلفة من حكم مدن كبيرة متنوعة ثقافياً ومليئة بالأحلام القديمة وحكايات الانتكاس المتكرر. والشراكة في جوهرها ستتعرض لامتحانات قاسية تختبر في الجميع القدرة على التمسك بسياسة التنازل المحسوب لصالح هدف العيش المشترك، وتقبل الآخر المختلف ثقافياً لصالح ان نعمل جميعا لوضع نواة الاحترام المتبادل في مستوى طرائق عيشنا وخياراتنا الفكرية والسياسية. وأمام المجلس والأحرار فرصة ان يلعبوا دوراً تاريخياً ويتعلموا الكثير من "فظائع الإسلام السياسي" في المنطقة والذي حشد جمهوره في معارك زائفة مع التيارات المدنية على "المثل العليا"، بينما تناسى جوهر المضمون الأخلاقي العادل للدين عبر التاريخ البشري الطويل.
ان جوهر العدالة ومبادئ الأخلاق التي تناستها الكثير من الأحزاب الإسلامية، تجد اليوم فرصة جديدة مع التغيير الحاصل. وجميعنا سنراقب ما يجري في هذه "الحكومات المصغرة" من أداء ومراقبة وكشف للفاسدين او تستّر عليهم، بوصف ذلك المعركة الحقيقية للشعب المحبط، وهو طريق سيفتح خلال الشهور الثمانية المقبلة، نافذة أوضح للتنبؤ بإمكانية ان يستمر التغيير الإيجابي في اختيار رئيس حكومة ٢٠١٤.
مفاتيح بغداد والبصرة
[post-views]
نشر في: 15 يونيو, 2013: 10:01 م