TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > حديقة غيزي: حديقة للديموقراطية الجديدة

حديقة غيزي: حديقة للديموقراطية الجديدة

نشر في: 18 يونيو, 2013: 10:01 م
"أخيراً"، قالت الفتاة الشابة قبل أيام للصحفية التلفزيونية ، "أخيراً أستطيع التعبير عن نفسي، كما تمنيت دائماً". الفتاة الشابة هذه كانت قد غادرت للتو كيس النوم الذي كان فراشها طوال الليل. أنها تنام منذ أيام في حديقة غيزي، يومها الطبيعي كما تقول، "لا تفتقده أبداً".
الفتاة الشابة هذه ليست استثناء. عدد كبير من شباب أسطنبول يعيشون منذ ايام في محيط ساحة تقسيم المحررة رغم اقتحام الشرطة لها في يوم الاثنين الماضي. القسم الأكبر من الشباب هؤلاء الذين عددهم بالآلاف، بعضهم أقام بشكل دائمي في محيط الساحة، البعض الآخر انتقل إلى حديقة غيزي، تتراوح أعمارهم بين 18 و25 عاماً. أغلبهم ما زالوا يعيشون في بيوت أهلهم. الأغلبية الساحقة منهم – المثير للدهشة أغلبهم نساء – هم طلاب أو انتهوا للتو من الدراسة الجامعية. لكن برغم النسبة العالية للعطالة التي يعاني منها الشباب التركي الذين يشكلون بالمناسبة 17% من المجتمع حسب الإحصائيات، إلا أنها لا تشكل المشكلة الأساسية في الوضع الحالي. أن ما يخافه هؤلاء الشباب، هو أن ينتهون خلال سنوات قريبة للعيش في دولة متسلطة يحكمها الدين ورئيس جمهورية مطلق الصلاحيات، في دولة ليس لهم الحق أن يقولوا فيها شيئاً!
الشتائم التي أطلقها عليهم رئيس الحكومة التركية رجب أردوغان، وهو يصفهم بالـ "مخربين"، و"السّلابة"، لم تثن من عزمهم، على العكس حولوا تلك النعوت إلى ماركات خاصة بحركتهم يفتخرون بها وبتنويعات مختلفة. أغلب الموجودين من الشباب في حديقة غازي ومحيط ساحة تقسيم ليست لهم علاقة بالأحزاب التركية التقليدية المعروفة، أو بالمجموعات اليسارية الكلاسيكية. وحسب استطلاع سريع قامت به جامعة بلغي من بين 3000 محتج، فإن 80% منهم يرفضون كل الأحزاب التركية. أنهم ببساطة يريدون تركيا جديدة. كأننا وبصورة هؤلاء الشباب نعود بعد 45 إلى شهر مايس 1968، عندما رفعت الحركة الطلابية في باريس شعار "السلطة للخيال"، فمن يعاين الصور التي انتشرت وسط أسطنبول، سيكتشف كيف أن الشعار القديم ذاك يستعيد شبابه. حديقة غيزي تفيض بأشكال التعبير الخلاقة. أينما تطلع المرء بالصور المأخوذة هناك يرى: لافتات، بوسترات، أفلاما. في باص محترق مثلاً أقام بعض المحتجين مكتبة صغيرة. كما لو أن كل القوة الخلاقة المضطهدة اجتمعت، أو عثرت على نفسها في حديقة غيزي.
صحيح أن أغلب المحتجين في حديقة غيزي يأتون من الجزء العلماني للمجتمع، لكن صحيح أيضاً أن بينهم عددا كبيرا من النساء المحجبات. في الجمعة قبل الماضية مثلاً نظم الذين يسمون أنفسهم بالمسلمين الثوريين صلاة الجمعة في ساحة تقسيم.
لكن تظل أكثر الأمور التي تلفت النظر ليس للمراقبين والمتابعين لما يحدث في حديقة غيزي، بأن المحتجين، بكل ما حملوا من تنوع سواء في الاتجاهات التي يؤمنون بها أو سواء بالمجموعات البشرية المختلفة عن بعضها بشكل جذري (أتراك، أكراد، مسلمون، مسيحيون، أو سنة، وعلويون...ألخ)، بأنهم تعاملوا مع بعضهم في الساحة بسلام، وبتسامح. من تخيل حتى اليوم، أن يسير مشجعو أندية كرة القدم الثلاثة في أسطنبول، كتالازاري، فينيرباخة، بيسكتاش، سوية تضامناً مع المحتجين في بارك فيزي؟ فحتى اليوم كان المشجعون هؤلاء معادين لبعض! لا أحد يعرف عدد المتظاهرين في حديقة غازي وساحة تقسيم، الذين يهتفون "رجب إسطفي" (ارحل)، ربما هم مليون، كما قالت إحدى المحتجات، والمدهش هو وجود لاجئين سوريين بينهم، اللافتة التي رفعها مجموعة من الشباب السوريين، والتي كتبوا عليها، "شكراً رجب أردوغان، جعلتنا نشعر كما لو كنا في وطننا!"، كتبت عنها الصحافة ووكالات الأنباء في كل مكان. أنها لمفارقة أن يجد الشباب السوري هؤلاء المشهد ذاته في اسطنبول، كما عاشوه في دمشق في بداية تظاهراتهم السلمية.
من يتابع ما يحدث في أسطنبول في هذه الأيام، لا يستطيع إلا أن يشعر بالسعادة، فما يحدث في حديقة غيزي، هو مختبر ديموقراطي بكل معنى الكلمة، كما لو أن حزباً تركياً جديداً ينشأ، يكسح كل الأحزاب التقليدية من تركيا. حتى الشهر الماضي ظن رجب أردوغان، أنه السلطان العثماني الجديد، الذي لا سلطة تعلو سلطاته. اليوم، حتى لو سحق أردوغان حركة التمرد هذه بشرطته ودبابته، فيكفي تطلعه بالمرآة، حتى سيرى صورة وجهه المليء بالكدمات والخدوش. حديقة غيزي وبالشكل الذي عليه، هي الربيع الذي ننتظر هبوب نسائمه علينا، أيضاً في بغداد!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

العمود الثامن: مطاردة "حرية التعبير"!!

العمود الثامن: عاد نجم الجبوري .. استبعد نجم الجبوري !!

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

العراق إلى أين ؟؟

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

 علي حسين في السبعينيات سحرنا صوت مطرب ضرير اسمه الشيخ امام يغني قصائد شاعر العامية المصري احمد فؤاد نجم ولازالت هذه الاغاني تشكل جزءا من الذاكرة الوطنية للمثقفين العرب، كما أنها تعد وثيقة...
علي حسين

زيارة البابا لتركيا: مكاسب أردوغان السياسية وفرص العراق الضائعة

سعد سلوم بدأ البابا ليو الرابع عشر أول رحلة خارجية له منذ انتخابه بزيارة تركيا، في خطوة رمزية ودبلوماسية تهدف إلى تعزيز الحوار بين المسلمين والمسيحيين، وتعزيز التعاون مع الطوائف المسيحية المختلفة. جاءت الزيارة...
سعد سلّوم

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

احمد حسن تجربة الحكم في العراق ما بعد عام 2003 صارت تتكشف يوميا مأساة انتقال نموذج مؤسسات الدولة التي كانت تتغذى على فكرة العمومية والتشاركية ومركزية الخدمات إلى كيان سياسي هزيل وضيف يتماهى مع...
احمد حسن

الموسيقى والغناء… ذاكرة الشعوب وصوت تطوّرها

عصام الياسري تُعدّ الموسيقى واحدة من أقدم اللغات التي ابتكرها الإنسان للتعبير عن ذاته وعن الجماعة التي ينتمي إليها. فمنذ فجر التاريخ، كانت الإيقاعات الأولى تصاحب طقوس الحياة: في العمل، في الاحتفالات، في الحروب،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram