TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > رغيفان وباقةُ وردٍ بين البصرة وفيَنّا

رغيفان وباقةُ وردٍ بين البصرة وفيَنّا

نشر في: 18 يونيو, 2013: 10:01 م

في مقبرة الحسن البصري بالزبير قرأت شاهدة على قبر أحدهم وهو من أسرة بصرية معروفة بالثراء والوجاهة العبارة التي تقول توفي بفينّا– النمسا في 16  حزيران ووصل جثمانه البصرة بالطائرة في 23 تموز عام 1951، ثم علمت بان الرجل كان ذهب لفينّا مأخوذا بسحر الموسيقى وتقاليد المسرح وجمال الفنون هناك،وحين ذهبت بعيداً بالبحث وجدت ان الكثير من رجال المال والأعمال كانوا يذهبون إلى المدينة هذه للاستمتاع بالفنون والطبيعة والحياة ويعودون بلوحات فنية مشهورة وباسطوانات موسيقية لباخ وبتهوفن وسواهما وبتحف وأنتيكات ونوادر أخرى من التي تقتنى وتعلق في بيوت الطبقة الأولى .
   طبقة التجار ومالكو البساتين وسواهم، هؤلاء تمكنوا وبدنانير بسيطة،وبتجارة محدودة ربما من تأسيس معالم أولية لمدن مثل بغداد والبصرة والموصل، في ظل غياب شبه كلي لمؤسسات الدولة ذاك قبل نحو من قرن من الزمان،هؤلاء الرجال هم الذين فكروا ملياً في كيفية تكوين المدينة،او رسم الصورة المحتملة لها من خلال مجانسة ما هو ريفي متحقق بما هو مديني متخيل ،حين أدخلوا الطابوق والاسمنت والحديد كمواد أولية في بناء منازلهم وقصورهم،ولم يكتفوا بذلك بل جعلوا المنازل منيفة جميلة، رفيعة الذوق قريبة من الأنهار محفوفة بالبساتين،وبذلك أسسوا لنا ما فتّح أبصار اهلينا للتطلع ورؤية العالم خارج محيط  النهر والبستان والنخلة وحقل الحنطة وزريبة الأبقار ومرعى الماشية.  
وحين رأى أمين عالي باش اعيان العباسي(1295-1346 هجرية) وهو من كبار الملاكين في البصرة أنه غير قادر على استصلاح أراضي أجداده الواسعة على ضفتي شط العرب في الفاو وأبي الخصيب سنَّ قانونا سماه (قانون التعّبات) والكلمة مشتقة من التعب، قضى بموجبها تمليك الفلاح نصف الأرض التي زرعها نخلا وأثمرت،وهي عملية تستغرق بين(5-10)أعوام ،وبذلك تأسست طبقة جديدة من صغار الملاكين، صارت فيما بعد رديفا للطبقة الأولى. كان أصحاب النفوذ المالي –التجاري آنذاك يوسعون الأرض خضرة وانهارا وثمارا ويضيفون للمدينة المزيد من المباني التي لا زالت حتى اللحظة هذه تعرف بأسمائهم .
 بالوعي المديني البسيط ربما، وبالمال المحدود ذاك صارت مدينة مثل البصرة مكانا يتأسس ويتسع ليصبح فيما بعد الأجمل في الخمسينات والستينات من القرن الماضي،كانت تجاور ذاك حركة مصرفية وصناعية أيضا ومثلها تجارية وجهود في البناء والتمايز به، إلى جانب قيام الحركة الثقافية التي لم تقتصر على طبقة المثقفين -كما هو الحال اليوم-،هناك عناية بالعلم والتعلم والفنون والموسيقى واقتناء اللوحات الفنية وحضور العروض المسرحية والذهاب للسينما،عناية كبيرة رعتها الطبقة الأولى التي اتسعت في المجتمع ،حتى صارت طقوس مثل السفر لأوروبا والذهاب للسينما ومشاهدة عروض المسرح فروضا اجتماعية،القضية التي جعلت من أحد رجال الأعمال المعروفين من أسرة الملاك لعله حبيب الملاك التفكير باستثمار أمواله في الفن فكان  بنى أكثر من دار للسينما في البصرة وبذلك تشجع أكثر من رجل أعمال آخر على التفكير ذاته، فكانت المسارح وكانت الكابريهات والكازينوهات وغيرها مما متّن العلاقة بين المال وقيم الجمال،القضية التي نفتقدها اليوم.
   ولعل مفارقة احسبها بالعظمى ان غالبية طبقة الملاكين هؤلاء إنما قَدِموا البصرة من الحجاز،قبل نحو من 200 سنة ثم تمكنوا من تأسيس ممالكهم المالية من العمل في التجارة، ذلك لما لديهم من القدرة والمعرفة في تنمية رأس ألمال،والصورة تتناسب جميلة مع استثمار المعرفة والثقافة لصالحهم اولا ومن ثم لمجتمعهم،فقد كان أحدهم إذا أراد أن يبني قصراً استعان بما عاينه في اوروبا،فترى الترف والفن وقيم الجمال باهرة واضحة في المبنى،ترى اختياره المكان الذي غالبا ما يكون على النهر،ترى عنايته بالنهر والشارع والجسر والحديقة وكل ما يحيط به،وإن دخلت البيت ستجد أجمل اللوحات والمقتنيات التي جلبها من مدن في اوربا وأمريكا وغيرها.ستجد السيارة منسجمة متناسقة مع شكل الورد المتدلي من السياج مع قضبان الحديد التي تحيط الحديقة، ستجد ان استثمار الوعي بالمال انتج مدنية وثقافة أضفت على المدينة الوقار والهيبة والشعور بقيمة الانسان .
  في ظل تراجع القيم المجتمعية اليوم هناك طبقة أثرياء كبيرة،وكبيرة جداً معظمهم من محدثي النعمة،او من المال غير المتواتر بأفعال مثل التجارة والعقارات،مال جمع على عُجالة بسبب الوضع في السياسية والفساد والطرق غير المشروعة. اشتروا البساتين الواسعة ،وبنوا البيوت والقصور الفخمة لكنهم لم يتمكنوا من مواءمتها حضاريا –مدينيا،لم يخرجوا من زريبة أرواحهم ،فقد  ردموا الأنهار واقتلعوا الاشجار وخربوا صورة الريف والمدينة معا ،كانوا مولعين بالاسمنت فصعّدوه السماء،حدائقهم موحشة ،وأسيجتهم غبراء عالية، تدخل قصورهم فتجدها خالية من لمسات الجمال،وسوى من صور لطواطم منقرضة لن تجد شيئا على الجدران.لا أتذكر متى قرأت لاوتسي لكني حفظت عنه مقولة (إذا كان لديك رغيفان بع إحدهما واشتر بثمنه باقة ورد).

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. ملاك

    نحتاج أن نطالع كل شواهد قبور الذين أحبوا مدنهم ونراجع كيف أحبوها هنيئا للكاتب محبته لمدينته

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

العمود الثامن: مطاردة "حرية التعبير"!!

 علي حسين أبحث في الأخبار ومجادلات الساسة عن موضوع لعدد اليوم ، وربما عن فكرة أقنع بها القارئ المحاصر بقطع الطرق والأرزاق، وبالعيش في مدن مثل حقول الألغام، شعارها التمييز، ومنهجها الإقصاء، ودليلها...
علي حسين

قناديل: حين استيقظ العراقي ولم يجد العالم

 لطفية الدليمي لعلّ بعض القرّاء مازالوا يذكرون أحد فصول كتاب اللغة الإنكليزية للصف السادس الإعدادي. تناول الفصل إيجازاً لقصّة كتبها (إج. جي. ويلز) في سبعينات القرن الماضي، عنوانها (النائم يستيقظ The Sleeper Awakes)....
لطفية الدليمي

قناطر: أنقذوا الثقافة من الأدعياء

طالب عبد العزيز منذ قرابة عقد من الزمن وأتحاد الادباء في البصرة يعاني من أزمة في اختيار مجلس إدارته، وهو بعلة لا يبدو التعافي منها قريباً، بسبب الاقتتال على المقاعد الخمسة الأولى التي تمثله....
طالب عبد العزيز

الانتخابات العراقية عام 2025: التحديات الداخلية في ظل ضغوط دولية متزايدة ..

كارول ماسالسكي ترجمة : عدوية الهلالي في يوم الثلاثاء، 11 تشرين الثاني 2025، أجرى العراق سادس انتخابات برلمانية ديمقراطية منذ سقوط صدام حسين عام 2003. وقد حققت القائمة الشيعية «ائتلاف الإعمار والتنمية»، بقيادة رئيس...
كارول ماسالسكي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram