في مقبرة الحسن البصري بالزبير قرأت شاهدة على قبر أحدهم وهو من أسرة بصرية معروفة بالثراء والوجاهة العبارة التي تقول توفي بفينّا– النمسا في 16 حزيران ووصل جثمانه البصرة بالطائرة في 23 تموز عام 1951، ثم علمت بان الرجل كان ذهب لفينّا مأخوذا بسحر الموسيقى وتقاليد المسرح وجمال الفنون هناك،وحين ذهبت بعيداً بالبحث وجدت ان الكثير من رجال المال والأعمال كانوا يذهبون إلى المدينة هذه للاستمتاع بالفنون والطبيعة والحياة ويعودون بلوحات فنية مشهورة وباسطوانات موسيقية لباخ وبتهوفن وسواهما وبتحف وأنتيكات ونوادر أخرى من التي تقتنى وتعلق في بيوت الطبقة الأولى .
طبقة التجار ومالكو البساتين وسواهم، هؤلاء تمكنوا وبدنانير بسيطة،وبتجارة محدودة ربما من تأسيس معالم أولية لمدن مثل بغداد والبصرة والموصل، في ظل غياب شبه كلي لمؤسسات الدولة ذاك قبل نحو من قرن من الزمان،هؤلاء الرجال هم الذين فكروا ملياً في كيفية تكوين المدينة،او رسم الصورة المحتملة لها من خلال مجانسة ما هو ريفي متحقق بما هو مديني متخيل ،حين أدخلوا الطابوق والاسمنت والحديد كمواد أولية في بناء منازلهم وقصورهم،ولم يكتفوا بذلك بل جعلوا المنازل منيفة جميلة، رفيعة الذوق قريبة من الأنهار محفوفة بالبساتين،وبذلك أسسوا لنا ما فتّح أبصار اهلينا للتطلع ورؤية العالم خارج محيط النهر والبستان والنخلة وحقل الحنطة وزريبة الأبقار ومرعى الماشية.
وحين رأى أمين عالي باش اعيان العباسي(1295-1346 هجرية) وهو من كبار الملاكين في البصرة أنه غير قادر على استصلاح أراضي أجداده الواسعة على ضفتي شط العرب في الفاو وأبي الخصيب سنَّ قانونا سماه (قانون التعّبات) والكلمة مشتقة من التعب، قضى بموجبها تمليك الفلاح نصف الأرض التي زرعها نخلا وأثمرت،وهي عملية تستغرق بين(5-10)أعوام ،وبذلك تأسست طبقة جديدة من صغار الملاكين، صارت فيما بعد رديفا للطبقة الأولى. كان أصحاب النفوذ المالي –التجاري آنذاك يوسعون الأرض خضرة وانهارا وثمارا ويضيفون للمدينة المزيد من المباني التي لا زالت حتى اللحظة هذه تعرف بأسمائهم .
بالوعي المديني البسيط ربما، وبالمال المحدود ذاك صارت مدينة مثل البصرة مكانا يتأسس ويتسع ليصبح فيما بعد الأجمل في الخمسينات والستينات من القرن الماضي،كانت تجاور ذاك حركة مصرفية وصناعية أيضا ومثلها تجارية وجهود في البناء والتمايز به، إلى جانب قيام الحركة الثقافية التي لم تقتصر على طبقة المثقفين -كما هو الحال اليوم-،هناك عناية بالعلم والتعلم والفنون والموسيقى واقتناء اللوحات الفنية وحضور العروض المسرحية والذهاب للسينما،عناية كبيرة رعتها الطبقة الأولى التي اتسعت في المجتمع ،حتى صارت طقوس مثل السفر لأوروبا والذهاب للسينما ومشاهدة عروض المسرح فروضا اجتماعية،القضية التي جعلت من أحد رجال الأعمال المعروفين من أسرة الملاك لعله حبيب الملاك التفكير باستثمار أمواله في الفن فكان بنى أكثر من دار للسينما في البصرة وبذلك تشجع أكثر من رجل أعمال آخر على التفكير ذاته، فكانت المسارح وكانت الكابريهات والكازينوهات وغيرها مما متّن العلاقة بين المال وقيم الجمال،القضية التي نفتقدها اليوم.
ولعل مفارقة احسبها بالعظمى ان غالبية طبقة الملاكين هؤلاء إنما قَدِموا البصرة من الحجاز،قبل نحو من 200 سنة ثم تمكنوا من تأسيس ممالكهم المالية من العمل في التجارة، ذلك لما لديهم من القدرة والمعرفة في تنمية رأس ألمال،والصورة تتناسب جميلة مع استثمار المعرفة والثقافة لصالحهم اولا ومن ثم لمجتمعهم،فقد كان أحدهم إذا أراد أن يبني قصراً استعان بما عاينه في اوروبا،فترى الترف والفن وقيم الجمال باهرة واضحة في المبنى،ترى اختياره المكان الذي غالبا ما يكون على النهر،ترى عنايته بالنهر والشارع والجسر والحديقة وكل ما يحيط به،وإن دخلت البيت ستجد أجمل اللوحات والمقتنيات التي جلبها من مدن في اوربا وأمريكا وغيرها.ستجد السيارة منسجمة متناسقة مع شكل الورد المتدلي من السياج مع قضبان الحديد التي تحيط الحديقة، ستجد ان استثمار الوعي بالمال انتج مدنية وثقافة أضفت على المدينة الوقار والهيبة والشعور بقيمة الانسان .
في ظل تراجع القيم المجتمعية اليوم هناك طبقة أثرياء كبيرة،وكبيرة جداً معظمهم من محدثي النعمة،او من المال غير المتواتر بأفعال مثل التجارة والعقارات،مال جمع على عُجالة بسبب الوضع في السياسية والفساد والطرق غير المشروعة. اشتروا البساتين الواسعة ،وبنوا البيوت والقصور الفخمة لكنهم لم يتمكنوا من مواءمتها حضاريا –مدينيا،لم يخرجوا من زريبة أرواحهم ،فقد ردموا الأنهار واقتلعوا الاشجار وخربوا صورة الريف والمدينة معا ،كانوا مولعين بالاسمنت فصعّدوه السماء،حدائقهم موحشة ،وأسيجتهم غبراء عالية، تدخل قصورهم فتجدها خالية من لمسات الجمال،وسوى من صور لطواطم منقرضة لن تجد شيئا على الجدران.لا أتذكر متى قرأت لاوتسي لكني حفظت عنه مقولة (إذا كان لديك رغيفان بع إحدهما واشتر بثمنه باقة ورد).
رغيفان وباقةُ وردٍ بين البصرة وفيَنّا
[post-views]
نشر في: 18 يونيو, 2013: 10:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 1
ملاك
نحتاج أن نطالع كل شواهد قبور الذين أحبوا مدنهم ونراجع كيف أحبوها هنيئا للكاتب محبته لمدينته