للنقد الأدبي أن يقول ما يراه في النتاج النسوي. شخصياً، لي اهتمامي الخاص. أنا أبحث، في النصوص التي أقرؤها لهن، عن بذور التأسيس. عن الصيحات الجديدة التي تخترق أقنعة الواقع وأقنعة اللغة. همي هو البحث عن تأثيرات الحركة النسوية في العالم في النتاج النسوي
للنقد الأدبي أن يقول ما يراه في النتاج النسوي. شخصياً، لي اهتمامي الخاص. أنا أبحث، في النصوص التي أقرؤها لهن، عن بذور التأسيس. عن الصيحات الجديدة التي تخترق أقنعة الواقع وأقنعة اللغة. همي هو البحث عن تأثيرات الحركة النسوية في العالم في النتاج النسوي العراقي. أردت ان ابدأ بالسرد، قصة ورواية ثم آثرت أن ابدأ بالشعر، فقد بدت لي الومضات الانثوية في الشعر اكثر سطوعاً وتحتاج مني الرواية الى تأسيسات معرفية أخرى.
أول من انتبهت لها من هنَّ، كاتبة شاعرة جريئة، حادة العبارة احياناً. تلكم هي السيدة ماجدة غضبان مشلب. لم أسمع بها من قبل. قرأت لها صدفةً "مذكرات امرأة" في العدد 188 سنة 2012 من صحيفة "طريق الشعب" العراقية. سألت عن الكاتبة الشاعرة لأقرأ لها المزيد. فقد تمنيت ان تُكْمَلَ هذه المذكرات وان تُشَذَّب مما هو في غير مستوى الكتابة الابداعية. فأقل ما يوصف به هذا العمل: انه عمل شجاع. هو ليس فضائحياً. الفضائحي ليس في صالح الأنثوية. الفضائحي لصالح الذكر مثل الصور العارية ورقص الجواري او غناءهن. الأنثوي المطلوب هو ما يعلي شأن الأنثى ويعلن عن رفض الانصياع للهيمنة الذكورية سلوكاً وأحكاماً... ماجدة تقول بوجع وبحس ثوري:
لو أماطتْ كلُّ امرأة اللثام / عن حجم ألمها، / لتصدّعت حجارةُ ما يتباهى به الرجال/ ويسمونها حضارة!
هذه ليست تعابير شعرية. هذه لافتة لمظاهرة نسوية تطالب بتغيير الواقع النسوي.
لا بد من التأكيد ثانيةً، اننا هنا نحكم على الكتابة ضمن المسألة الأنثوية ولسنا بصدد التقويم النقدي الأدبي. هذا قولها الآخر:
لندع اعضاءنا الجنسية جانباً / ولنكن بشريين فقط.
هي القضية النسوية بوضوح، وهو الهدف الاول للفينميزم، الحركة الأنثوية. وهذه الحركة، هي، لا غيرها ستغير المجتمعات التي يشكل بقاؤها، بانظمتها العتيقة والمؤذية، عاراً في العصر.
الجهد الابداعي النسوي يشير، يكشف المسعى النسوي ليحقق الاعتراف بعالمهن الداخلي أولاً وكيف يحققن شرعيته العلمية والاجتماعية ثانياً. من هذا المنطلق تبدو الحركة النسوية العالمية باتجاهاتها المختلفة، حركة مطالبة بالحرية. الحرية تجعلها حركة اجتماعية لأن الحرية مطلوبة للرجل أيضاً. وحريتهما معاً تعني تحرير الشعب. إذن الحركة النسوية العالمية اليوم بشعاراتها في الحرية والحقوق وتغيير الانظمة، هي حركة تغيير اجتماعي. هي بالتالي حركة اصلاحية بقوة اندفاع سياسي.
احترامنا للحركة النسوية هو احترامنا للجهد البشري الجديد لتأسيس أنظمة جديدة، مثلما هو احترام لحق الانسان في الوجود الحر وبصيغتيه البيولوجيتين.
واعتقد، بالنسبة للأدب، ان الاشكال الكبير الذي يواجه التعبير النسوي الحديث هو إشكال لغوي. اللغة مُرِّنتْ على تلقي صفات وتراكيب رجولية. وصارت العبارة تفهم فهما رجولياً. حتى الدلالة خضعت للمؤثر الفحل المدرّب. وأن تكون لهن لغة "مُبْتَدَعة التعبير"، تحمل مضامينها الجديدة، يستوجب ذلك قدرة على تنحية متعلقات المفاهيم القديمة وقدرة على ابتداع تعبير جديد.
حتى الآن لم أجد في الكتابات النسوية العراقية اسلوباً نسوياً. الكتابة النسوية اصلاً، لم تصفُ، ولا اظنها يوماً ستكون نسوية صافية . حتى في بريطانيا والولايات المتحدة وأوربا، لا يوجد انموذج مثالي، ولكن هناك تقدماً في انتاج نقد انثوي وكتابة ابداعية انثوية. نسبة نسبة من الانثوية مطلوبة في الكتابة النسوية وهي التي نحاول العثور عليها. أغلب اساليبهن، كما تبدو لنا، انها تجمع بين جماليات الحلم ولغة التعبير المتوارثة مع جمل، اسطر، صفحات واحياناً أعمال قصيرة كاملة، تخترق الحرمانات والموانع والموروثات العميقة التي تواجههن.
النضال النسوي للكاتبة او الشاعرة اليوم هو نضال للتمتع بكامل المشهد وللتعبير عنه. وهو نضال لاستغوار كامل الذات وللتعبير عنها. في هذا النضال مسعى لايجاد معنى لحياتهن وتحقيق خطوات ظافرة في الطريق الى الحقوق والحرية.
الرفض واضح لان تكون حياتهن فارغة او مستلبة، حتى لو توفرت لهن بعض حرياتهن مثل الجنس والحقوق الاجتماعية، كالاجور والمشاركة في العمل وإدارته. هذا بالنسبة للمبدعة ما يجب تجاوزه ليكون لها "ذلك المعنى الخاص". ما عادت السعادة الأنثوية في محض المحبة والاشفاق والرقة...الخ. نعم هن يردن هذه ان تظل في خانة الفضائل الانسانية وليس الهبات. هن يرفضن "التبرّعات" ويعملن على انتزاع الحقوق واحداث تغيير في الفكر البشري السائد.
شخصياً، هكذا ؟ أفسّر قول "ليدي مكبث":
تعالي ايتها الارواح/ التي تنزع الى الافكار الفانية/ جرديني من انوثتي/ واملئيني من الرأس حتى القدمين/ بقسوة لا تضارَع.
هي تريد ابعاد الانوثة- الضعيفة لا الطبيعة الانثوية وهذه شكوى الانثى عبر العصور، حتى اننا نجد اصداءها بتركيز ووضوح لدى شاعراتنا، فهذه ايمان الفحام تصدر ديواناً عنوانه "أتعبني طينُك ربي"! وهذه بلقيس خالد، وهي من البصرة ايضاً، تقول: "أنا النهر كرهت عذوبتي"! ونضال القاضي تحاجج سرداً في سيرة ظل-
العيب منها/ -العيب منه!
هنَّ تَعِبات من الانوثة الضعيفة المُصادرَة، لكنهن يردن الانوثة الطبيعية، الواعية..
لقد شغلني النزوع المجيد الى الحرية في شعر بعض من شاعراتنا، والادانات الشجاعة للضعف الانثوي النابع للموروث، وللذكورية المتخلفة وقوانينها الرثّة والشرسة في العصر. ابحث عن تلك السطور التي تظهر قوة الانثى الداخلية وهي تواجه ببسالة ذكورية مدانة وتتجاوز الادانة الى الهجوم على النظام الابوي كله لتطلع انثوية جديدة تشع بين السطور. وهذا هو السبب الذي جعلني اتغاضى عن شعر شاعرات أخر احترمهن..
ظهور ناقدات انثويات في بريطانيا، فرنسا، الولايات المتحدة، كشف مغاليق كثيرة وازال اخطاء في الفهم. نحن اليوم نمتلك رأياً آخر في الشخصيات النسوية، شخصيات الروايات والمسرحيات. نفهم "جين اير" فهماً آخر ونفهم أم هاملت فهماً آخر. انتهى زمن الاتهام النهائي ووصفها بالزانية تآمرت على قتل زوجها. كان الزوج ضعيفاً والمملكة موشكة على السقوط. هي ضحت بزوج وانقذت المملكة. وليدي ماكبث هذه، لم تتخل عن انوثتها من اجل السلطة، نحن الآن نملك تفسيراً آخر ضمن معطيات النسوية الحديثة. هي ارادت التحرر، الخلاص، من النسوية الضعيفة غير القادرة الى القوية الحاسمة. السلطة هنا توظيف شكسبيري تقليدي. بقي ان نقول من هذه الامثلة ومن واقعنا الحديث، ان النسوية مثلما هي حركة نضالية من اجل حقوق النساء وحريتهن، هي لصالح الرجال ايضاً إذ تضعهم- في الوضع البشري الطبيعي.
صحيح ان غالب النساء في صراعهن او في ادراكهن لاسباب معاناتهن بعيدات عن المنظمات النسوية. وانهن يتحدثن مع انفسهن، يقرفن، يسخطن ويشتد في داخلهن الرفض حد اطلاق صرخة... لكن كل ذلك في منظور فردي. هن يرين الانظمة الموغلة في القدم، المعمرّة، التي ما تزال تمسخ الحياة وتشوه اعمارهن. يرينها متاعب فردية، شخصية قد تزول إذا تغير المسكن او الزوج او وجدن للعقم او البرود علاجاً! لكن مجمل الرفض يؤسس موقفاً ضد واقع مدان.
الوعي الانثوي الجديد، الثقافة النسوية، كشفتا لهن اولى الاسباب:
الجنس والعمل. اعتماد المرأة على نفسها في كسب العيش، انجاز عظيم. بدأت تعمل، بدأت تكسب، بدأت تطالب بحرية الانجاب وحرية الاجهاض. النضال لتغيير الانظمة يحتاج الى مزيد من الوقت. يحتاج الى فرصة للتثقيف، لتغيير انفسهن من الخضوع والاستسلام والاسترضاء الى المحاججة والرفض والاستقلال في الرأي. الافكار الانثوية خدمتها التكنولوجيا والثقافة المعاصرة معاً. بدأن يرسمن استراتيجيات لتوسيع المعاهد النسوية والتثقيف على الرؤى الانسانية الجديدة.
ادركن العلاقات بين النظرية والتطبيق. اهتزت القيم البطرياركية وُجِدَت منظّرات نسويات، ناقدات نسويات، كاتبات، ووجدَأدب نسوي!
ما يسبب تعثراً في الشرق، والشرق الاوسط بخاصة، ان النظريات اكثر حضوراً من التطبيق وما تزال نساء كثيرات يرتبطن بالموقف الذكوري ضد النسوي. وكذا لغة الادب، وكذا الحلم وكذا حسم الموقف من الذَكَر والتبعية البطرياركية. كل هذه لم تنجز تماماً. ما يزال هناك الكثير من التداخل المربك بين الوعي الجديد، ومستويات حداثة التعبير. الخوف وارد، والمزالق من ان تعطي اللغة وعياً آخر خطأ عن التعبير عن الذات، واردٌ أيضاً. لغة الكاتبة ماتزال خليط تعابير قديمة وحديثة الحاجة ستظل قائمة لزمن آخر حتى تتضح لغة تحسن التعبير عن الحياة النسوية روحاً وتاريخاً ونزعات. لغة كالتي نتحدث عنها هي التي ستُظهر لنا الانثى كما تراها الانثى وهي التي تؤكد العلاقة بين عالمهن الداخلي والعالم. من هنا اهتمامنا بحضور الانثوية في الشعر وبأهمية التقدم الفني، وتنامي قوة التعبير.
حان الوقت لايقاف الخداع التاريخي برمزية الانثى الى المقدس: لارتباطها بالخصب، والزراعة "والارض – شبيهة الانثى..." نعم منحها ذلك سلطة المقدس لكنه لم يزح ضعفها ولم ينح الهيمنة والتحكم. فقد استمر خط النظام الابوي في الملكية، واستمرت السلطة المطلقة لرئيس العائلة حتى القرن التاسع عشر وما يزال الانتساب الى الذكور عدا استثناءات كانت في الطريق، في مجتمع روما القديمة مثلاً، بعض مجتمعات الهنود الحمر. وتلك انضوت تحت نظام من نوع عشائري يحكمه مجلس منتخب.
ان حديثنا محصور الآن في مرحلة النظام المدني الحديث، لكن نرى مفيداً ذكر بعض تفاصيل المحطات التي مرّ بها النظام العائلي من الاباحية الجنسية الى الزواج الجماعي ثم الانتقال من الانتساب للام الى الانتساب الى الاب. فالمرأة في جميعها كانت تحت الهيمنة والتسلط. علاقات الانتاج كانت وما تزال يؤسسها العمل والعمل مرتبط بالقوة. ان احداً لم يقل بتملك او بسيطرة ، ولا حتى بمساواة المرأة مع الرجل في النظم العشائرية والمجتمعات القديمة. ولقد جاء النظام الابوي مكملاً للسيطرة والتحكم بوسائل الانتاج. والمرأة هنا وسيلة انتاج، مُنْتِجة عمالة.
وأنا هنا أفهم قول عشتار:
انا الاول والآخر/ البغي والقديسة/ الزوج والعذراء/ الأم والأبنة...الخ.
افهمها لا كما يرون انها "الكل بالكل". افهمها بانها كما تريدها القوة والنظام، كما يريدها السيد او المسيطر. هي لكل المهام وكل الادوار. ولا ننسَ ان القديسة والكاهنة في المعبد كانت بغياً "مختارة" أيضاً! وقد اختلطت صفات كاهنة المعبد بصفة البغى والجارية بخادمة المقدس.
لقد حصل تطور بطريق معكوس. فمع الخروج من البربرية بدأ الخضوع: عشتار "الضعيفة" تعرض "الوصال" على جلجامش القوي ورده كان،
ما أنتِ إلا الموقد الذي/ ستُطفأ ناره في البرد!
وانتصار مردوخ انهى آخر نفوذ لـ تيّامه واكتمل النظام الابوي. وهانحن اليوم نشهد قوى تجمع مفكرين وحركات نسوية ، تحاول التحرر من ذلك او تهذيبه..
ما اصداء هذه الافكار في الادب النسوي عندنا؟ سأشير برضا، باعجاب الى ما وجدته في المجموعات الشعرية لعدد من الشاعرات. وأنا فرح ببذور النار، فهي ستؤسس لجمال انساني قادم. لن أتوقف امام فنية الكتابة. ذلك شأن النقد الادبي. وانا لي اهتمام معرفي محدّد بمتابعة بدايات الرفض، بدايات التمرد على الهيمنة وان كانت بوجع، وإن كانت ملتبسة احياناً. لكنني فرح بنسوية مهذبة وبارعة وواضحة الشجاعة. تلك هي بدايات التغيير. لكنّ المجد!