-1-
نتناول الفطور على سطح الطابق التاسع لفندق ( CVK) المطل على ميدان تقسيم و اسطنبول بكاملها من جهة البر الاوروبي وتبدو غابة بلغراد والمتنزه الوطني في عمق الأفق المغبش فنسرع في نشوة البرد الصباحي للتجوال بين حمائم ميدان تقسيم وباعة الزهور الذين تصطف حوانيتهم على عمق الساحة فتشكل متراسا للجمال والعطور ، ضجة عربة الترامواي الحمراء الوحيدة وموسيقى أرغن تنطلق من كنيسة مجاورة ونحن نطعم الحمام يظهر لي مسكونا بالأسى وجه ( فخري توركه لي ) بطل روايتي ( موسيقى صوفية ) سليل ملوك بيزنطة الذي يموت حرقا بطريقة مريعة ظل يخافها ويتجنبها طوال حياته ، يقضي الرجل في اللهب وهو يستحضر في ذاكرته المزحومة بأحداث التاريخ وأقوال الفلاسفة وايقاعات الموسيقى مشهد ( السلطان محمد الفاتح) وهو يحرق عاصمة أسلافه ويدمر الامبراطورية البيزنطية ،كان ( توركه لي ) يحلم على امتداد سنوات عمره باستعادة أمجاد بيزنطة الغابرة عندما ينجح في جمع عدد من المرايا الأثرية التي سرقت من قصور أسلافه الأباطرة ويشكل من مجموعها صورة لمدينة بيزنطة تنطق بالحياة والسلطة والقوة ويتلألأ برج ( غالطا) بنوره العتيق وسط قصورها وبوسفورها ، لم ينجح الرجل في فك لغز وصية الأسلاف الخرافية ليحكم اسطنبول من جديد بعد سلفه الأكبر (قسطنطين الحادي عشر ) وتهاوت المرايا الثمينة المرصعة بالأحجار الكريمة وأنياب الثعابين لتتحطم وسط النيران وتنتهي معها إلى الأبد أحلام البيزنطي الأخير كما لن ينجح ( رجب طيب اردوغان ) اليوم في استعادة أمجاد العثمانيين وجعل مدينته مقرا للخلافة الاسلامية التي يحلم بها مع ما تحلم به بعض الأحزاب الاسلامية فلا أحد بوسعه إعادة تقاويم الزمن إلى القرون الماضيات مهما حاول الحالمون والموهومون من هواة السياسة.
للمرة الثالثة أزور اسطنبول و أستظل بأغصان الصفصاف البابلي الذي يسميه البعض ( الصفصاف الباكي ) في متنزهاتها و حديقة بيت الحريم ، أميز الصفصافة العتيقة من بين أشجار الدلب والسنديان والكستناء والزيزفون ، أشجار عمرت قرونا و شهدت أحداثا مروعة من عسف السلاطين وعمليات الرجم وقطع الرؤوس التي تتم عند الباب الأوسط بحق المارقين من موظفي السلطنة الكبار وثمة حنفية ماء قيل أن الجلاد كان يغسل سيفه في مائها بعد عمليات الاعدام التي يأمر بها السلاطين غلاظ القلوب لتدوم لهم الممالك والنساء والثروات الى حين ، في الحرم حيث تحجر سيدات السلطنة وتحاك المكائد والدسائس بسموم وأسلحة فتاكة واستعانة بغلمان مخصيين تتناهى إلى أسماعنا صرخات مكتومة واستغاثات أنوثة , تخبرنا المرشدة السياحية الرقيقة ( دالما ) التي تتحدث العربية بشيء من الزهو التركي إن بيت الحريم او الحرم الذي كانت تسكن فيه سيدات مبجلات ومحظيات وجوارِ مملوكات - يعني إسمه الحظر او المنع – أقول لها يعني التحريم - تبتسم وتسرد ما لقنتها به أدبيات السياحة : (أصل فكرة الحرم آتية من الحور العين اللائي يجازى بهن ذكور أهل الجنة وقد اعتبر السلاطين بيت الحريم تطبيقا دنيويا للجنة )
بمعنى ان السلاطين يعيشون الجنة مرتين : في الحياة الدنيا وفي الآخرة الموعودة ! ومن هنا كانت تصدر الفرمانات السلطانية من قاعة المجلس المعزولة عن الحريم بضجيج حنفية ذهبية يفتحها الحاجب ليشوش على المتلصصين وفي وشوشة الماء وانهماره في حوض الذهب تعلن الحروب والغزوات فتمتلئ القصور بالغنائم والسبايا وشهوات التوسع والاستبداد.
يتبع
اسطنبول: بين مجلس السلطان وميدان تقسيم حريم وحور عين وحرية
[post-views]
نشر في: 22 يونيو, 2013: 10:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...