TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الغريزة المتدنية

الغريزة المتدنية

نشر في: 23 يونيو, 2013: 10:01 م

في بوستر دعائي ضد العنصرية أربعة أمخاخ بشرية: متساوية الأحجام للجنس الأبيض، الأسود والأصفر. في حين ينفرد مخ العنصري بالحجم الصغير. البوستر لم يتوسل استعارة خيالية، تعبر عن احتقار لصغار النزعة العنصرية في الإنسان. بل يهدف إلى حقيقة بيولوجية. أو على الأقل، أنا الذي أرى ذلك دون شائبة علمية. فالإنسان العنصري تكوين نفسي متطرف عن لا إرادة. إنه لا يُعنى بالحقيقة خارجه، أو يسعى إليها. بل تُملى عليه نزعته المتطرفة من "فراغ روحي" داخلي. فراغ يولّد بالضرورة "أفكاراً" مرضية تحتاج إلى علاج، شأنها شأن المرض العضوي.
الانسان المتطرف كيان مريض. وهذا المرض يجعل من الكيان خزيناً لكل أنواع التطرف، لا لنوع واحد. فهو متطرف في الفكرة التي يحملها، ومتطرف في العقيدة التي يؤمن بها، ومتطرف في الضغينةِ التي تولّد أعداءً، ومتطرف في الحبِّ الذي يصبح رغبة مميتة للتملّك، ومتطرف في الشهوةِ التي تحوّل كلَّ شيء حتى المقدّس إلى ذريعة، ومتطرف في النزوع إلى السلطة، والنزوع إلى الثروة. ضربٌ مرضي من العمى الذي لا يسمح لصاحبه إلا برؤية نفسه وهدفه، عبر غليان دموي وعصبي لا يعرف السكينة، لأنه لا يعرف الإشباع. ولا فرق هنا بين متطرف جنسي، أو متطرف يساري، أو متطرف إسلامي، أو متطرف عدمي. أو متطرف تملّكي. المتطرف واحدٌ فيهم جميعاً.
في الشهر الأول من سنة 2003، وقبل سقوط نظام سلطة صدام حسين، كتبت عن ثلاث أثافٍ يعتمدها قِدْر "الغريزة المتدنية" لأزلام النظام. وهي السعي لإشباع رغبة السلطة، ورغبة الثروة، ورغبة الجنس. قِدْر الغريزة المتدنية يغلي بهن، ولا سبيل إلى الإشباع: " سلطة البعث ارتسمت، في وعي العراقيين، بهذه الأطماع الثلاثة، والأعوام الثلاثون ملأت بها الأفق حتى ليصعب محوها. والآن، يأمل العراقيون بالتغيير. ويتأملون، بذات البصيرة، قوى متحفزة لاستلام عراق المستقبل، أفراداً وجماعات، تطمع باحتلال مواقع في السلطة الجديدة، تمنحها إرادة القوة وإرادة المال. وهي تعرف، بحكم الخبرة، أن من يطمع بالقوة وبالمال لم يخرج من دائرة الغريزة المتدنية بعد. وسيكمل المشوار الى إرادة الجنس!"
الآن تبدو كلمتي المحذرة السابقة في مكانها. ولكنها تنطوي على شيء من سذاجة. لأني قصرت "الغريزة المتدنية" على سلطة البعث، وكان يجب أن تتسع لكل سلطة تعتمر بعمة العقيدة المقدسة، أرضية كانت هذه العقيدة أو سماوية. الغريزة المتدنية، وليدة التطرف. تُحيل، في السعي الشائه للسلطة، كل قيمها إلى وسائل وذرائع لإشباع رغائب الحيوان الكاسر في داخلها: السلطة، الثروة والجنس.
الانترنت يلاحق اليوم أذرع إخطبوط "الغريزة المدنية" بالأخبار التي لم تعد فضائح. يساريو فكر أممي أو قومي، رجال دين، أدباء ثوريون، سياسيون دُهاة، بكاؤو حق ضائع، ضحايا تلبّسهم هوس الانتقام.. هؤلاء اليوم، بفعل الطبيعة المتطرفة وحدها، نجوم تسلية دامية لفضائح نهب مراكز التسلط، ونهب الثروات، ونهب الملذات الجسدية.
فتاوى المتطرفين الإسلاميين بشأن الفاعلية الجنسية تفضح ذلك (فتوى المرأة المسلمة في إشباع شهوة المقاتل الإسلامي أمست أكثر من معروفة، أو فتوى التحرش بالمرأة العاملة حتى تكف عن التبرّج بالعمل..الخ) . فهي ليست أكثر من صمام أمان للرغائب الشهوانية الحبيسة التي تضطرب داخل اليبيدو المرضي. وهي قرينة النزوع للثروة، والنزوع للسلطة. وليس غريباً أن نرى أن استلام سلطة الدولة، أو سلطة الإعلام من قبل المتطرفين الإسلاميين عادة ما يكشف بوضوح تفجر النزوعات الثلاث التي تبدو للجميع غريبة الطابع.
الطبيعة المتطرفة حالة مرضية بيولوجية، والعقيدة فيها ليست إلا قناعاً. حتى الآمال المتطرفة ليست إلا وليدة بؤس متطرف. اليمين المتطرف واليسار المتطرف ليسا إلا قناعين لوجه واحد. العاطفة المتوهجة قد تنفع في الإبداع الخيالي، ولكنها مميتة حين تتلبّس المعتقد أو الفكرة. إنها تحتل موقع القناعة العقلية. والمريع أن المعتقد في الفاعلية السياسية والدينية يعتمد جذراً عاطفياً على الدوام.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. قارئه

    مقالة أكثر من رائعة في توصيف مآل الأمور في فردوسنا العراقي العصي على الفقدان شاء ذوو الغريزة المتدنية أم أبوا ، دمت فوزي كريم .

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

العمودالثامن: في محبة فيروز

 علي حسين اسمحوا لي اليوم أن أترك هموم بلاد الرافدين التي تعيش مرحلة انتصار محمود المشهداني وعودته سالما غانما الى كرسي رئاسة البرلمان لكي يبدا تطبيق نظريته في " التفليش " ، وأخصص...
علي حسين

قناديل: (قطّة شرودنغر) وألاعيب الفنتازيا

 لطفية الدليمي العلمُ منطقة اشتغال مليئة بالسحر؛ لكن أيُّ سحر هذا؟ هو سحرٌ متسربلٌ بكناية إستعارية أو مجازية. نقول مثلاً عن قطعة بديعة من الكتابة البليغة (إنّها السحر الحلال). هكذا هو الأمر مع...
لطفية الدليمي

قناطر: أثرُ الطبيعة في حياة وشعر الخَصيبيِّين*

طالب عبد العزيز أنا مخلوق يحبُّ المطر بكل ما فيه، وأعشق الطبيعة حدَّ الجنون، لذا كانت الآلهةُ قد ترفقت بي يوم التاسع عشر من تشرين الثاني، لتكون مناسبة كتابة الورقة هذه هي الاجمل. أكتب...
طالب عبد العزيز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

إياد العنبر لم تتفق الطبقة الحاكمة مع الجمهور إلا بوجود خلل في نظام الحكم السياسي بالعراق الذي تشكل بعد 2003. لكن هذا الاتفاق لا يصمد كثيرا أمام التفاصيل، فالجمهور ينتقد السياسيين والأحزاب والانتخابات والبرلمان...
اياد العنبر
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram