لقد تعلَّم الإنسان منذ الأزل أن يحمي نفسه من عوامل الطبيعة ويتخذ الوسائل التي تحافظ على درجة حرارة جسمه، كأن يرتدي الملابس الثقيلة ويشعل النار للتدفئة لكي يمنع انخفاض درجة حرارة جسمه في البيئة الباردة، أو ينقص من نشاطه وطعامه، ويستظل تحت الأشجار أو ف

لقد تعلَّم الإنسان منذ الأزل أن يحمي نفسه من عوامل الطبيعة ويتخذ الوسائل التي تحافظ على درجة حرارة جسمه، كأن يرتدي الملابس الثقيلة ويشعل النار للتدفئة لكي يمنع انخفاض درجة حرارة جسمه في البيئة الباردة، أو ينقص من نشاطه وطعامه، ويستظل تحت الأشجار أو في الكهوف ويستحم في المياه الباردة لكي يمنع ارتفاعها في البيئة الحارة.

فإذا تعرض الإنسان إلى جو شديد البرودة لمدة طويلة يتعذر على جسمه الاحتفاظ بالحرارة الطبيعية أو تعويضها، ويصاب بالقشعريرة وترتعد فرائصه وينتابه الاضطراب والاختلال العقلي. وتُعبّر لغة الطب الحديث عن انخفاض درجة حرارة الجسم إلى أقل من 35 ْم بمصطلح Hypothermia وهو مشتق من اللغة الإغريقية، وعلى النقيض من ذلك يُعبّر عن ارتفاع درجة الحرارة الذي ينجم عن التعرض للحر الشديد أو ضربة الشمس؛ بالمصطلح الطبي Hyperthermia، ويفيد عكس معنى المصطلح الأول. ومن العجائب الطبية التي حدثت في عام 2010م أن طفلة عمرها سبع سنين عاشت بعد أن تعرضت إلى الغرق في المياه المتجمدة في السويد وانخفضت درجة حرارة جسمها إلى 13 ْم، ويُعزى عدم موتها من الغرق إلى أن الانخفاض في درجة الحرارة أوقف العمليات الحيوية بالجسم وأنقص حاجتها إلى الأكسيجين.
وينقسم الانخفاض في حرارة الجسم إلى أربع درجات: انخفاض بسيط (32 ْم - 35 ْم)؛ انخفاض متوسط (28 ْم - 32 ْم)؛ انخفاض شديد (20 ْم - 28 ْم)؛ انخفاض بليغ (أقل من 20 ْم). وقد يصاب جسم الإنسان بأنواع من الإيذاء نتيجة التعرض للبرد مع انخفاض درجة حرارة الجسم عموماً أو بصفة جزئية؛ وتتمثل إما في قرح جلدية سطحية تنشأ مع تكرار التعرض للبرد، أو إصابته بما يسمى (عضة البرد) التي تؤدي إلى تلف أجزاء من أنسجة الجسم أو الأصابع.
ويتخذ جسم الإنسان وسائل دفاعية عندما يتعرض لانخفاض درجة الحرارة، وتتمثل في التغيرات الفسيولوجية التي من شأنها الاحتفاظ بالحرارة الداخلية، وأهمها الارتعاش وارتفاع ضغط الدم وضربات القلب وانقباض الأوعية الدموية السطحية. ومن الأعراض المصاحبة لانخفاض الحرارة كثرة التبول، والاضطراب العقلي، وقصور وظائف الكبد، وارتفاع معدل الجلوكوز في الدم نتيجة انخفاض استهلاك الخلايا ونقص إفراز الإنسولين وزيادة إفراز الجلوكوز من الكبد.
 فإذا استمر الانخفاض في درجة الحرارة يشتد ارتعاش جسم الإنسان ويضعف تحكمه العضلي وتتباطأ حركته وتتعثر مشيته ويزيد اضطرابه العقلي. ويبدو الشخص شاحباً بسبب زيادة انقباض الأوعية الدموية الجلدية، وقد يصير لون الشفتين وأطراف أصابع اليدين والقدمين أزرق.
وتأتي بعد ذلك مرحلة تباطؤ شديد في ضربات القلب والتنفس وانخفاض في ضغط الدم. كما يصاب الشخص بالتلعثم واضطراب الأفكار والسلوك والنسيان ويعجز عن استخدام يديه بصورة طبيعية. يلي ذلك توقف عمل أعضاء الجسم الحيوية والموت.
ومن المفارقات العجيبة أن نسبة كبيرة من الذين يموتون بسبب التعرض للبرد الشديد يمرون بمرحلة يتجردون فيها من ملابسهم ويلقونها بعيداً بسبب الاضطراب العقلي والسلوكي الذي يصيبهم؛ وذلك يزيد من تأثير البرودة في أجسامهم والتعجيل بموتهم. ومن المهم أن يستوعب رجال الإنقاذ والشرطة هذه الظاهرة حتى لا يظنوا أن ضحايا التعرض إلى البرد من النساء كنّ ضحايا لاعتداءات جنسية. وتفسر هذه الظاهرة علمياً بحدوث شعور زائف بالحر الشديد بسبب اندفاع الدم إلى الأوعية الدموية السطحية التي ترتخي وتتسع في مرحلة متقدمة من التعرض للبرد بعد أن كانت منقبضة ضيقة أثناء المراحل السابقة.
ومما يزيد في مخاطر التعرض للبرد أن يكون الشخص تحت تأثير الخمر الذي يؤدي إلى توسع الأوعية الدموية السطحية، مما يُحدث عنده شعوراً زائفاً بالدفء يجعله لا يلجأ إلى التدابير الوقائية؛ بينما يساعد تدفق الدم إلى سطح الجلد على سرعة فقدان حرارة الجسم. وكذلك تؤثر الخمر عن طريق إنقاص الشعور والإرادة فيفقد الشخص الحس الواقي الذي يمكنه من اتخاذ الوسائل التي تحميه من البرد.
كما يكون الطاعنون في السن والفقراء والمشردون الذين لا يملكون الوسائل التي تقيهم من البرد أشد عرضة للإصابة بانخفاض الحرارة، وكذلك المصابون بالأمراض المزمنة التي تضعف مقاومة الجسم والمدمنون على المخدرات، وبطبيعة الحال الذين يعيشون في المناطق الباردة.
ولعل التحدي الذي يواجه الطبيب الشرعي أن يقرر سبب الوفاة بعد العثور على جثامين ضحايا الصقيع؛ ويتعين أن يجري ذلك في ثلاثة مسارات. الأول يتعلق بالأدلة الظرفية، أي ما يتوافر من معلومات سابقة حول الضحايا، ووجود الجثامين في بيئة شديدة البرودة؛ أو أن تكون مرت بمرحلة من البرودة الشديدة في وقت سابق. أما المسار الثاني فيتعلق باستبعاد أي أسباب أخرى للموت؛ كالإصابات القاتلة، أو الأمراض المميتة التي يمكن أن تكون أدت إلى الوفاة. والمسار الثالث أن تلحظ علامات تشي بتعرض الضحية إلى البرودة الشديدة مثل القرح الجلدية أو اسوداد أطراف الأصابع بسبب عضة البرد.
أما علاج ضحايا انخفاض درجة الحرارة أو الـ Hyperthermia فيعتمد على تدفئة الضحية، وذلك إما عن طريق التدفئة الخارجية الذاتية أو التدفئة الخارجية الإيجابية أو التدفئة الداخلية. وتستهدف التدفئة الخارجية استغلال مقدرة الجسم الذاتية على توليد الحرارة عن طريق الملابس الحافظة للحرارة والأغطية ونقله من الجو البارد إلى مكان دافئ، وهذا العلاج مناسب للذين يعانون من البرودة البسيطة. وتستخدم التدفئة الخارجية الإيجابية للذين يعانون من الدرجات المتوسطة من البرودة، وتتمثل في تسليط الهواء الدافئ على جسم الضحية، أو كمادات الماء الساخن. أما التدفئة الداخلية فيحتاج إليها الضحايا الذين يعانون من البرودة الشديدة، وتتطلب حقن السوائل الدافئة عن طريق الوريد، أو عن طريق تجاويف الصدر والبطن والمعدة والمثانة البولية، واستخدام بخار الماء الدافئ للتنفس، أو تدفئة الدم مباشرة باستخدام جهاز القلب والرئة الاصطناعية.
وقد لعب التعرض للبرد دوراً مهماً في اندحار الجيوش الغازية عبر المناطق الباردة، حيث فقد القائد هانيبال نصف جيشه عندما عبر جبال الألب أثناء غزو أوروبا عام 218 قبل الميلاد، وأوشك جيش نابليون أن يهلك في روسيا عام 1812م. وقد أهلك البرد أعداداً كبيرة من الجنود خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية؛ خاصة جنود هتلر في معركة ستالينجراد .(1942-1943) كما مات العديد من المدنيين بسبب البرد عندما غرقت السفينة (تايتانيك) عام 1912م، والسفينة لوسيتانيا عام 1915م، وحديثاً السفينة إستونيا عام 1994م.ئ؟