يسيطر على ذهني اليوم ان هناك ما هو اخطر من "الانتحاري" الذي نقف امامه مستسلمين للعجز. تتحدث مع خبراء الامن المحليين بعد المشاهد المؤلمة في طوزخورماتو، عن "الانتحاري العراقي" فيقولون لك ان هناك "وفرة غريبة" في اعداد العراقيين الذين ينفذون هجمات انتحارية. لقد توقف انتاج معظم الاشياء في بلادنا لكننا توقفنا عن استيراد الانتحاري وبدأنا نطلق خطوط انتاج محلية لهذا النوع من اليأس الاسود، وبوفرة.
١٠ سنوات مرت ولم نطلع على جهد تحليلي صريح تقوم به مؤسساتنا الدفاعية لنفهم فقط كيف يجري تكوين الانتحاريين، ولنفتح نقاشا وطنيا مسؤولا حول عراقيين يستسلمون لهذا اللون من القتل الجماعي. ومرة طرحت استفهاماتنا على مسؤول امني "رفيع جدا جدا"، فراح يبادلني حيرة عظيمة ويقول "شتسويله، هو يريد ينتحر"!
خبير امني اقدر كفاءته يسرد قصصا مؤلمة كان قريبا من التحقيق في اطارها. يقول "جزء مهم من الشباب الذين ينتحرون في الاسواق وبين الناس، نفذوا العمليات بعد ايام قليلة على خروجهم من غرف التحقيق الامني العراقية. الشعور العميق بالذل نتيجة التعذيب البدائي فاقم يأسهم من كل شيء".
يواصل حديثه بألم انسانيتنا المنتهكة "آخر انتحاري تابعت قضيته، رأى احدى قريباته وهي عارية وسط رجال الامن. ضابط تافه قام بتعريتها امامه وطلب اعترافات. ضابط آخر شعر بفداحة المشهد وتدخل بطريقة ما لينهي القصة فأفرج عن الرجل والمرأة، وكان آخر ما سمعه من المعتقل المفرج عنه انه سينتحر لانه تألم بما فيه الكفاية، وراح يسيطر عليه احساس عميق بالذل. لكن الانتحار لم يحصل في غرفة معزولة داخل المنزل وإنما في سوق المدينة!".
حين تنشب صراعات بين طرفين مجنونين، يسارع جنونهما الى حرق ما تبقى من عقل. غريزة التسلط البدائية لدى الضابط لا يمكنها ان تبني وطنا ولا تتابع خيوط جريمة تأكل هذا الوطن. واليأس الذي يحيط حياة الرجل المفرج عنه، تحول الى برميل بارود وقذف به الى صيغة جاهزة من "الذبح المقدس" وترك وراءه امرأة محطمة يمكن ان نتوقع منها اي رد فعل خارج المألوف.
لكن المؤلم ان الضابط نفسه هو انتحاري مشابه بصيغة اخرى. ان الانسان الاخلاقي في داخله انتحر اثناء التحقيق، ولم يعد له وجود. الغريزة البدائية والحماقة في داخل الشرطي، فجرت نفسها وقتلت بقايا الكرامة لدى المتهم والمرأة، وبالطبع لدى حشد من المجتمع القريب من هذه الخطيئة.
ويمكننا ان نتسلق "سلم الخطيئة الوطني" صعودا الى صانعي السياسات، وأولئك الذين منعوا تصحيح ظروف الاعتقال والاستجواب وقرارات الاعدام.. الخ. كل المصفقين للاخطاء مشمولون بهذا "الانتحار الوطني" الذي يفجر غرائز التسلط ويتورط بخبط عشواء، ويزيد انعدام الامل ويسحق الكرامة ويحول الوطن الى ميدان لتبادل انواع الجنون والحماقة.
اليائس الكبير هذا يقرر للحظة (ووراءه حشد من العبارات اللابسة للقداسة وأحلام الميتافيزيقا) ان ينتحر معنا، فهو لا يحب ان يذهب بمفرده ابدا، ولماذا يذهب وحده وهو يجدنا جميعا مجرمين نستحق الحرمان من الكرامة التي خسرها هو؟
فدرجة تحضر الانسان تجعله قادرا على ادارة حياته بشكل لائق كما تجعله ايضا ممتلكا لخيار مغادرة الحياة بإرادته و"بسلام عميق ولائق". اما المجتمعات الممزقة فان اليأس يأخذها بعيدا، وتسارع الى تدمير الحياة بسيناريو مرعب وموغل في القسوة وعبر اشكال متنوعة من الانتحار، وليس انتحاري طوزخورماتو سوى تمثيلها المادي وصورتها الشكلية.
خياراتنا البدائية في ادارة شعوبنا وعجزنا عن اعتماد سياسة متعقلة، تسهل ولادة "خيارات بدائية وسوداء" لرفض الواقع. وتخلف نقاشاتنا الوطنية و"بذاءتها" احيانا، هي انتحار كذلك. الفساد في المال ليس مجرد اكل لحقوق الناس، بل هو جزء من انعدام الفروسية، يقوم بتعليم الاخرين انعدام المسؤولية. وهو الذي يشجع فسادا مناظرا في غرفة التحقيق ويحولها الى "مصنع للانتحاريين" يمتد اثره الى الانسان المقموع وكل النساء والرجال في اسرته.
ان اصرار الامم المتحضرة على توفير "عدالة مترفة" لمجرميها، ليس مجرد ترف حداثي. بل هو في دلالته العميقة طريقة تمنع تحويل عائلة المجرم ومحبيه، الى مجرمين جدد يشعرون بالظلم وبكل الدوافع التي تبرر لهم كسر قواعد السلم الاجتماعي.
سنظل نسأل: من الذي تعرض الى التعرية في السجن، المرأة ام بربريتنا؟ من الذي انتحر أولا، فروسية الشرطي ام ارادة السجين؟ فكلاهما عجزا عن تجنب الخيارات المتوحشة، وكلاهما ينفجران في عقولنا كل يوم.
تَعرية "القريبات": من الذي انتحر في النهاية؟
[post-views]
نشر في: 26 يونيو, 2013: 10:01 م
جميع التعليقات 7
علي
سلمت يداك تللك هي الحقيقة
علي
بارك الله فيك على هذا الموضوع .... للاسف المسؤولين تفكيرهم مشغول في لغف المال والفخفخه الفارغه وكيف يلوون ذراع منافسيهم
k.a
تشخيص منطقي اوافقك الراي بارك الله فيك وبكل الاصوات الشريفه التي تكتب وتحلل بعيدا عن الاحكام المسبقه والعقد وغرائز الثار والانتقام وتشويه الحقائق علما انني سمعت عن مثل هذه الحالات
moustafa
اني من المتابعين لك واشد على وزرك لهذة التحاليل والمقالات الجريئة التي تنم عن الذكاء والوطنية والحرص على الوطن من الضياع في دوامة الصراعات الطائفية والاثنية التي سوف تحرق كل شي ان استمر الوضع على حالةمع فائق الشكر والاحترام
كاطع جواد
نعم هذا جانب من الصورة بتشخيص يكاد يلامس الحقيقة المرة التي يتعرض لها العراق بسبب الانتحارين ، قد يساهم ضابط سيء بخلق هذا النوع من البشر او ما يسمى بالقنابل البشرية لكن هذا لا يكفي وحده بخلق انتحاري سادي شاذ يقتل الناس الابرياء وليس ممن أساؤوا اليه ، لكني
جمانة
الاخلاق هي القيام بفعل مناسب في الحرية الفردية المطلقة، والناس بدون اخلاق يحتلون مناصب قيادية ووظيفية بدون رادع اخلاقي او وازع ديني اوقانون مدني المسؤل هو الدولة ممثلة بالحكومة لانها صاحبة القرار في تعيين اسوء الناس وعدم محاسبتهم والتغطية على اي عمل همجي
صفاء
...............زين افتهمنا ليش انتحر هذا الذي عرضه انتهك امامه زين والبقيه الباقيه من الصالحات الباقيات