لم تكن الحماسة العربية في محلها، للأسف،وهي تهتف بسعادة لنصرة الجماهير العربية التي نجحت في إسقاط سلطات الاستبداد العربي والزعيم الأبدي في أربع دول عربية حتى الآن. .. وإذا كانت السياسة هي الوجه المباشر، الفاقع، للمجتمع، كما نراه في إعلامه وعلاقاته ال
لم تكن الحماسة العربية في محلها، للأسف،وهي تهتف بسعادة لنصرة الجماهير العربية التي نجحت في إسقاط سلطات الاستبداد العربي والزعيم الأبدي في أربع دول عربية حتى الآن.
.. وإذا كانت السياسة هي الوجه المباشر، الفاقع، للمجتمع، كما نراه في إعلامه وعلاقاته الداخلية والخارجية وأحواله الاقتصادية، فإن الثقافة (= أعني جملة النشاط الفكري في العلم والفن والأدب والفلسفة حيثما وردت كلمة "ثقافة" في هذه المقالة) هي الوجه الحقيقي لأي مجتمع، وإن تجاور الوجهان، بل قل إن اتحدا، وأثر أحدهما في ملامح الآخر وسحنته وحركة عينيه وسجال أفكاره.
يمكن أن نحدس مقدمات أي ثورة سياسية منذ أيامها الأولى، إن لم يكن منذ اليوم التالي لنجاحها، فما الذي حملته ثورات الربيع العربي في أيامها التالية، ولتسهيل الفكرة: ما الذي تحقق حتى اليوم؟
لا شيء يذكر!
إن قوة الشارع العربي في حركته العارمة مقابل هشاشة الدولة العربية المركزية من بين أهم أسباب انتصار الشارع الجماهيري على القصر الجمهوري.. فالجماهيرية العظمى لم تكن عظمى أبداً بدليل أنها سقطت على أيدي جرذان.
ولم يزل هذا الشارع أقوى من القصر.
لكن سلطة الشارع لا تمثل الدولة بقوانينها ومؤسساتها وأحكامها (السلطات الثلاث) وسائر الهيئات والتشكيلات المرتبطة بها والمتعاونة معها لقيادة المجتمع، وتعلمنا الثورات الكبرى، عبر التاريخ الحديث، مآل أنبل الأفكار وأكثر الشعارات ثورية والأهداف إنسانية، لأن منطلقات الثورة لا تنتهي بالتحقق المأمول، بل إن الثورات الكبرى، كلها، انتصرت ثم تبقرطت ثم سقطت، وإذا استثنى أحد ثورة سبارتكوس لتحرير العبيد، فإن الحركة المدنية في القرن العشرين، وفي مقدمها حركة مارتن لوثر كينغ، انبثقت من تطور اجتماعي كضرورة أخلاقيةلا علاقة لها بثورة سبارتكوس، على أهميتها،فما زالت بقايا عبودية كريهة في مجتمعات أفريقية – عربية.
المواطن التونسي البوعزيزي الذي أحرق نفسه احتجاجاً على سوء الحال واندحار الآمال لم يكن مثالاً ثورياً لأنه أشعل فتيل الثورة، بل هو يأس فردي حانق لا يعول عليه ثورياً، لأنه ضحية وليس بطلاً (متى كان المنتحرون ثوريين؟)فالجزائري هاشم قاسم الذي أشعل النار في نفسه بعد أيام لم يشعل الثورة في الجزائر رغم تشابه الظروف والأسباب: الجوع والبطالة.
الثورة، بخلاف الانقلاب العسكري، حركة تغيير جذري لا تتحدد بفترة زمنية وليس لها عمر حقيقي أو افتراضي، لأنها حركة ممتدة في الحاضر والمستقبل وإن حملت في أحشائها مرارات الماضي وتجاربه الغنية والفقيرة، فالماضي يبقى كابوساً ثقيلاً تنوء تحته ذاكرة الأحياء، كما جاء في مخطوطة ألمانية بعنوان "الثامن عشر من برومير".. العالم، بأسره، يعيش ثورة علمية وثقافية منذ غاليليلو حتى الغد.
هانحن ندخل وجر الذئاب: الماضي.
يكاد الماضي يثقل حاضرنا ومستقبلنا وليس ذاكرتنا، حسب، كما ورد في المخطوطة الألمانية، ذلك إن أقوى مراكز القوى، اليوم، هي التي تتمسك، بأسنانها ومخالبها بالماضي أصولياتٍ ومنطلقاتٍ وتطبيقاتٍ مدنيةً ومسلحةً وما ملكت أيمانها.
القادمون من المخطوطة الدينية بارعون في تحقيق الظفر على الجميع (أين المصري وائل غنيم ومن معه؟) لأنهم أبناء ثقافة سائدة صارت بديلاً عن ثقافات أخرى عدة، والسائد يتمتع بالسلطة والقناعة والإيمان ومثير للدجل بخلاف الضد العقلاني، الفقير، المثير للجدل، المغترب والعاجز عن "الثورة" بين قويسات مقصودة.. إنهم القادمون من الماضي بمدرسته العنيفة وشعاره المنغلق وسهولة شعاره الحقاني وانتمائه الآيديولوجي الطيب.
ماذا يعني صلاح عبدالصبور بالقياس إلى الداعية الإسلامي النجم؟
لا شيء أيضاً.
ماذا يعني العفيفي الأخضر إزاء تاجر سلاح إسلامي وداعية متعصب؟
لا شيء أيضاً وأيضاً.
يقولون هي مرحلة انتقالية.
لكن كلاسيكيات الثورة وصفت المرحلة الانتقالية بأنها سيرورة التغيير متمثلة بإجراءات جذرية وقوانين تغييرية تدرجية وصولاً إلى أعلى مراحل الثورة الاجتماعية في تحقيق أهدافها في العدالة واحترام الإنسان وتجسد الحرية في الإبداع العلمي والأدبي والفني في الفروع المعروفة حتى لو شاب هذه المرحلة شيء من العنف والفوضى وعدم الوضوح.
المرحلة الانتقالية العربية تسير من ذروة النصر على الاستبداد إلى هاوية العودة إلى الاستبداد.
نعم، هناك حراك جماهيري ما زال مستمراً في عواصم التغيير العربي لكنه حراك مشوب بالتخبط والفوضى والعزلة والعجز، لأن القوى الحية – أو التي يفترض بها الحيوية – غير مؤهلة لنقل ثورات الربيع من صفحة التخبط إلى صفحة الوضوح.. من الفورة الذاتية إلى القرار الواعي.بسقوط السلطات السياسية في القاهرة وتونس و (نصف سقوطها دمشق) والوضع الهش في لبنان و "تحرير العراق"– مع وقف التنفيذ والتوتر السياسي، العلني والدفين في بقية عواصم العرب تراجعت عواصم الثقافة العربية التقليدية التي كانت تكتب وتطبع وتقرأ واستحوذت دول الخليج على "الثقافة" – أضعها، ثانية بين قويسات مقصودة – فصارت لها معارض للكتب ومهرجانات سينما ودور نشر ومراكز بحوث منها ما هو مرموق ومنها ما هو غير ذلك، لأن "الثقافة" في هذه الدول باتت جزءاً من رأس المال المالي والسياسي والإعلامي وليست (الثقافة) ممارسة اجتماعية فردية أو جماعية مستقلة وحرة.. إنها ثقافة رأس المال النفطي الذي تتمتع به السلطة ومؤسساتها لا الأفراد كمواطنين أحرار في دولة القانون والمساواة.
الحرية ليست مفهوماً نسبياً يخضع لسوق السياسة على وفق العرض والطلب.. إنها أثمن قيمة اجتماعية..و الإنسان يمكن أن يعيش عبداً بينما الحرية لا تعيش مع العبيد.. لكننا اكتشفنا إثر ربيعنا العربي،بخلاف شعوب الأرض، الوجه البشع للحرية، لأن حركات الربيع العربي، التي تحمسنا لها بشدة، لم تنتج ثقافة جديدة تنقل المجتمع إلى حياة جديدة، لنرى مشهدنا العربي في لحظة خضوع إلى سلطات من نوع آخر، بمختلف تلاوينها وإن من كانت من متدرجات الرمادي، لا يمكن التعويل عليها على وفق معطيات الراهن الثقافي الراكد والمضطرب.. بل الخطير.
إنه الوجه البشع للحرية الذي لم يكن لها في يوم من الأيام إلا في المجتمع العربي الراهن.