يبدو لي وأنا معنيّ بالشعر، ان اللهفة والتوق الى "الوصل" أو الى لحظات الوصال وقرب الحبيبة... وراءها رغبة غير محض العملية الجنسية، عملية التكاثر اصلاً، هنا وراءها رغبة أن يكون الانسان حرّاً من ارثه وتشوّهاته وانها، الانثى ترى الذكر لحظات الوصال حميماً
يبدو لي وأنا معنيّ بالشعر، ان اللهفة والتوق الى "الوصل" أو الى لحظات الوصال وقرب الحبيبة... وراءها رغبة غير محض العملية الجنسية، عملية التكاثر اصلاً، هنا وراءها رغبة أن يكون الانسان حرّاً من ارثه وتشوّهاته وانها، الانثى ترى الذكر لحظات الوصال حميماً يعلي شأنها فهي في سعادة استرداد المكانة، وهي هنا ليست الخَضوع المدانة المزدراة، هي هنا النِّدْ المحتفى بها التي تُعامل باحترام وأُلفة. في لحظات الوصال يكون الانسان إنساناً طبيعياً، نقياً من وطأة السلطة ومثالب البطرياركية وافتقاد الروح النبيل. هو هنا وهي، حميمان يتبادلان المحبة ويريان جمال الحياة، وللانسانية فيهما معنى.
لكن الانثى في الادب، في الشعر منه بخاصة، هي تصوّر تخيلي ذكوري تنشط فيه المهارات البلاغية مع البيولوجيا ويتحول فيه الجسد الانثوي الى مُتَخَيّل تنفّس الذاكرة عن مخزونها ليعيش الذكر استيهاماته الشهوانية والجمالية وتحقق المشاركة والانسجام بين الذكر والانثى. الاثنان يحتفلان بقرب الوصول الى المعنى. الى لمسة الحياة الغائبة. وعمل الادب هنا عمل عظيم، إذا يسهم في استكمال التجربة وحضورها- في الذاكرة، أو مستقبلاً. لكن هذا لا ينسينا ان الجسد الذي صنعته المخيّلة هو جسد من خلق مخيّلة الواصف له. والوصف الشعري هذا لا يظل فيه الجسد جسداً والانثى لا تظل انثى، هي في الشعر يجعلها الواصف الرائي تتسامى عن كونها أنثى طبيعية، فهل هذا في صالح الانثى؟
جواب هذا السؤال يمضي في اتجاهين. الاول: نعم، لانها ساعة نعيم في مدى الشقاء المرير وفرص إنسانية يبعد فيها التوحش والتسلط والمصادرة او الاستهانة بالانثى. أيضاً هي تمارين لتقديم انموذج نسوي محتفى بانوثته وانسانيته، ايضاً انموذج ذكوري محتفى بذكورته وانسانيته..
اما الاتجاه الثاني لجواب ذلك السؤال، فهو: انه يبعد المرأة عن طبيعتها البشرية وحقوقها الاجتماعية في الواقع المعيش ليعوض عنها بانموذج متخيل آني. والابتهاج القدسي، الفوق طبيعي متخيل مؤقت. ما يهمنا هو ان تكون انثى بطبيعتها البشرية الانثوية.وهذه الانثى محترمة تتمتع بحريتها في هذا العالم.
هذا "المُتَخيّل" البهيج يجب الا يشغلنا عن قبح التاريخ ورداءة الانظمة والقوانين والواقع المرير الصعب للانثى. الجسد المتخيل ليس بديلاً عن الجسد البشري الحي في واقعه. هو لا يعوّض طابعه الوجودي. هذا جسد ثقافي! كما اننا لا نرتضي ان تنوب الذكورة عن الانوثة في الرغبة والاستجابة، او انها تصف بدلاً عنها وتفسر، تتصرف، تأكل، تنام.. الحركة النسوية الحديثة تعمل على فض الاشتباك بين الذكوري والانثوي. هي باختصار تريد ان يتضح أن يُسْمَع الخطاب الانثوي كما هو انثوياً!
ويمكن ان نرصد هذا الاتجاه بوضوح حداثوي بعد الحرب العالمية الثانية ومن سيمون دوبوفوار، التي رفضت في الجنس الآخر 1949 الطرح القديم وطالبت المرأة بان تقول: "أنا امرأة" لتكون هي نفسها. وسيمون دوبوفوار هي التي نبّهت الى الحاجة الى نظرية نقدية انثوية. بعدها، كيت مليت"Kate Millette"، في كتابها سياسة الجنس أو الجنس سياسياً "Sexul Politics" والذي انتقدت فيه فرويد ود.هـ.لورنس وهنري ميللر وجان جينيه وسواهم ممن وظفوا المرأة توظيفاً يرضي حاجتهم الذكورية. ورأت كتاباتهم تجليات خيال ذكوري تؤكد على دونية المرأة وعلى الروح الاستسلامي فيها. ولعل "Helen Cixous" في "ضحكة الميدوزا" "The laugh of the medusa" 1976 كانت الاعلى صوتاً إذ طلبت من النساء الكاتبات ان يضعن أجسادهن في كتاباتهن. اعقبتها كرستيفا في هذا التوجّه.
مهما خضنا في تفاصيل الموضوع النسوي، يظل الجسد هو المكوّن الاساس للهوية الانثوية. وكانت مهمة الادب تصوير، توصيف كشف خفايا- واحياناً تزييف جسد المرأة وروحها وتمويه عذاباتها او يدوس على الموضوع كله ولا يراها. الادب النسوي الجديد هو الذي تولى المهمة وهو المعتمد اليوم والموثوق بحقائقه وتفاصيلها صار يقدم كشوفات جديدة، يصوّب أخطاء قديمة متوارثة وجديدة عابثة او غير جادة. ايضاً، صار يسرّب نمطاً حيّاً واميناً من الثقافة النسوية الحديثة.
الاستاذة ايلين شوالترElaine Showalter وهي مؤلفة لعدد من الكتب النسوية المهمة. منها مؤلفها ادبهن الخاص A Literature of their Own استعرضت فيه حوالي المئتين روائية انجليزية من برونتي الى لسنج في كتابها النقدي المهم الشعريات الانثوية Feminist Poetics
السيدة شوالتر، عرضت النشاط الثقافي النسوي في ثلاث مراحل:
المرحلة الاولى، او التطور الاول: كان فيه الادب النسوي يحاكي الذكوري. حاكىَّ الرجال وخضع ادبهن الى جماليات أدبهم وقد ظل الجسد في هذه المرحلة تحت الهيمنة البطرياركية وتفرعاتها. اما المرحلة الثانية فهي مرحلة النسوية. أخذ الجسد فيها يسلّط الضوء على مكانته الوظيفية ليس بوصفه هوية مميزة للمرأة. اما المرحلة الثالثة او الطور الثالث فهو الطور الانثوي، الذي تفرد بتجربة انثوية تقوم على الخصوصية الجسدية والفكرية للمرأة وكشف عالمها الروحي. اللامرئي جيداً من الرجال من قبل. وقد اتضحت هنا الذات الانثوية الخاصة والهوية النسوية العامة.
وصحب ادب هذه المرحلة ناقدات انثويات كما ظهرت منظرات انثويات وبدأنا نشهد كتباً نقدية نسوية وفلسفات نسوية واجتهادات واتسعت الحركات النسوية في العالم، كما تطورت اهدافها..
هل نبحث عن بعض من ذلك الاشعاع في كتاباتنا المحلية؟ ظهرت اصوات تنادي فكرياً بهذا الاتجاه وتستنكر بعضاً من القوانين التي ما عادت تليق بالعصر وتقف ضد الحصار والقمع والتسلطات المذهبية والدينية على المرأة حياة وفكراً وتطلعاً الى المستقبل. اما في الادب، فها أنا احاول حراثة التربة لأستقبال تلك البذور علها تنتج في المستقبل حركة نسوية، كما في العالم. وسأحاول اقتناص الشرارات الصعبة لاجعل منها اساساً للشعلة التي تحرق الركام القديم وتضيء الطريق الجديد. العمل الثقافي هو عمل ثوري. ساعمل وراء لافتة اكتبي عن نفسك... الكتابة تمنح المرأة قدرة على الوصول الى قوتها العظيمة وتعيد لها مملكتها الشخصية وملذاتها ومناطقها الجسدية الهائلة التي بقيت مغلقة باحكام... وامراة من دون جسد وخرساء وعمياء لايمكن ان تكون محاربة جيدة...
لقد تلمسّت فيما أقرأ من نصوص نسوية ذلك النزوع الذي ابحث عنه لتوكيده، لكي احتفظ في ثنايا الحقل الاجتماعي واثقاً من التراكم واثقاً بان المستقبل سيحترم النصوص التي اوردتها اليوم شواهد. وان كثيرات سيكون اهتمامهن "بادبهن الخاص" بـ" نسويتهن" بالالتقاء معنا في التغيير، تغيير القوانين والانظمة والانتقال الى الحياة الانسانية الطبيعية والمحترمة.
من قراءتي لكتابات الشاعرات اللواتي درست نتاجهن، لاحظت ان النص الجديد يتشعب الى زوايا مختلفة ويحاول ان يخترق حشداً من اسباب الردع ليقترب من الممنوع عنه. أُقرّ بصعوبة تقدم أي نص مفاجىء. صعب ظهور نص كاشف لمساحة مدانة وبطاقة ثورية كافية. صعب ايضاً ان يطلع نص انثوي بالقوة التي نريدها تحت وطأة هذا الحشد من النصوص الذكورية. الثقافة الذكورية غابة مخيفة، وصعب على النص الانثوي اختراقها. وإذا ما تم الاختراق، استوجب ثناءنا لانه بعض من شرر الانتصار ومن تأكيد الحضور الجديد.
لقد ابتدأت الضربات الجديدة، الرافضة المتمردة، على الجدار الاسود لتخرج الاصوات الجديدة، لتخلع المرأة حجاباتها المضادة لنسويتها وتتجاوز الحراسات القديمة. ولتكشف الانثى عن روحها الحقيقية القابعة في ذلك المكان المظلم... وليكن واضحاً لمن يكتبن الشعر: الشعر ليس رفاهية، كما تقول"اودر لورد" "ِAudre Lorde" (1934- 1992): وبالنسبة لنا نحن النساء هنالك مكان مظلم في الداخل، حيث تنبعث روحنا الحقيقية.."
اجتماعياً، الادب قوة اساسية يمكن الاعتماد عليها. فالبرلمانات الفاسدة لا يمكن ان تشرّع قانوناً نظيفاً. اولاً هم حملة افكار ذكورية متوارثة ثانياً هم يخشون التغيير. هن الآن في مرحلة الاعتماد على النفس حتى تفرز الثقافة الجديدة والوعي نماذج من المثقفين يتمتعون بالخلاص من كذب ومعضلات الجندر، أي انهم يتحررون من مخلّفات "ضد النسوية". في حال كهذه سيخرج الجيل الجديد وهو يشق طريقاً نضالياً ليقول بما انتبه اليه، ليعلن افكاره الجديدة ورؤيته للحياة.
انا ألمس الآن، ارى التشققات المهمة في اسوار مجتمعاتنا الشرقية. وهي الآن قلقة وبدأنا نرى بذوراً نارية في الكتابات وفي المجتمع بعامة. بدأنا نسمع كلاماً غاضباً نافراً ومباشراً، لا محتالاً مثل كلام شهرزاد وإن لم يكف الردع بعد وإن كنا نرى قمعاً بثأرية تاريخية. وإن لم يختف المتوحش. لكن هناك حقيقة تستوجب الإقرار بها: هي ان الوعي الثقافي الذكوري صار يستوعب لحدّ ما، المسألة إنسانياً وفكرياً وهو بهذا يستكمل علميته وحداثويته. وكثر عدد المناصرين لحقوق المرأة وقد استحدث مصطلح للذين يعملون على اهدافها"Perfeminist"
لا بد إذن من قراءة جديدة للنص النسوي الشرقي الذي انبثق من خضم هذا التاريخ الاجتماعي وشقَّ قشرتَهُ الحاضنة. وسيكون نص مثل هذا ناتجَ حراكٍ زعزع ثوابت متصلبة. النصوص الجديدة تقول لنا: ان تلك الثوابت الهيكلية ما عادت تصمد امام قوة الوعي المتزايدة.
صحيح إن الأساليب الكتابية الموروثة ما تزال تؤثر في الكتابة النسوية القليلة في بلادنا لكن جديداً يُرى وتغيرات في تركيب العبارة structure تفاجئك باستمرار قراءاتك. واننا اليوم نحس في بعض الكتابات النسوية بمزاج جديد: بحرارة تجاوز، باصرار لاطلاق مكبوت.
كان هذا المدخل ضرورياً للاشارة الى تطور لغة الكتابة النسوية العراقية وتمكنها من مضامين جديدة، منها التعبير عن الاشكالات المزمنة والصعبة. فمن الشعري وتفنّن الأسلبة لدى المبدعة لطفية الدليمي الى الجملة الواقعية المنضبطة الموجزة، لا فضفضة ولا مرادفات لدى الاستاذ د. بشرى البستاني، الى لغة الإخبار المُتْقَن لدى السيدة ابتسام عبد الله وعالية طالب. الى لغة الشعر الحداثوي عميقة الدلالة عالية الفن لدى الشاعرة إيمان الفحام والشاعرة نضال القاضي، حيث الجمل تتوالى باستعارية عالية وبعزم إداري ووجع ذاتي يكاد يكون ملازماً كل سطور القصائد..
إن البوح النسوي، السلبي، مثل اوجاع الهجر والبحث عن "سعادة" الجسد وتعطشه يمتزج باستيعاب جماليات الفنون في الحياة من الكلمات. كما نرى في الرهافة العالية للدليمي ورحابة روحها الفني... كل ذلك لا يخفي افتقاد روح انثوي ثوري حاسم وعدم اكتمال. هو نمط خاص من الكتابة النسوية يمر مثل ساقية بين القديم والجديد من "الاشجار" .. وما دمنا نشير الى السرد صحبة الشعر، فالامانة الثقافية توجب إكبار عالية ممدوح أقربهن الى الانثوية الحقيقية التي نتحدث عنها. يمكن ان تمثل اشعار نجاة عبد الله نوعاً من التوفيقية، نوعاً من الرضا بالسوء والصمت على مضض. هي تتخفى، تتأسى بالاسطوري، بمسكّنات الحلم، بالعبث اللفظي أحياناً وانشغال بتجريب قد ينفع الفن بدرجة ما لكنه لا ينفع القضية النسوية ولا حقيقتها. هي محزونة، لابتعاد الحل على العكس من زميلتها إيمان الفحام في قضيتها النسوية. إيمان تركز كل قواها لاقتلاع الحقائق المخفية ورفعها للشمس مسربلة برمزية تمويهية لتخفيها عن العادي. وقد نفسر "الميلان الفضائحي" في شعر سمرقند بانها مخادَعَة ذكية من الانثى لترويض المتوحش، لتذكيره بجمال لايراه! بهذ التفسير فقط نرتضيه شعراً انثوياً وضمن الحركة الجديدة والا فهو شعر لصالح الذكوري ولابهاجه او انعاشه. والانتباه هنا يجب ان يكون شديداً للتمييز بين الاثنين. على اية حال هو اتجاه ضمن اتجاهات...
هذه احكام اولى، انطباعية في مجملها ولا بد من دراسة تفصيلية تؤكد أو تعدل أو تنفي .. لكن، وفي كل حال، لا بد من بداية، وقد بدأنا!
* القسم الثالث من مقدمـــة كتاب الانثوية في الشعـر العراقي الحديث