اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > العين التي تقرأ والعين التي ترى

العين التي تقرأ والعين التي ترى

نشر في: 30 يونيو, 2013: 10:01 م

أقرأ "الأخوة كارامازوف" للمرة الثانية، بعد قراءة أولى في مطلع السبعينات. وعلى عادتي أحب أن أتابع، حين أقرأ رواية، صداها في السينما، إذا توفر. ومع هذه الرواية ضللت الطريق، لأنها ألهمت مخرجين في أكثر من عشرة أفلام منذ 1915، ليس يسيراً ملاحقتها جميعاً. وبعض هذه الأفلام مسلسلات تلفزيونية بالغة الطول. الروسية منها (2008) تمتد لقرابة ثماني ساعات. والإيطالية (1947) في سبع حلقات.
بعد قراءة الرواية شاهدت عدداً من هذه الأفلام، وحلقات من المسلسَليْن الروسي والإيطالي. وفي كل واحدة من هذه المشاهدات أفتقد شيئاً بالغ الأهمية. شيئاً يرتبط باستثارة المخيلة عبر الكلمة. الفيلم يأسر المخيلة في الصورة الحية، في الحدث، في الشخوص. وهو فعل بالغ الإثارة والإمتاع. ولكن نتاجه ذاك يختلف عن نتاج مخيلة القارئ. لأن نتاج المخيلة، داخل فعل القراءة، هو نتاج كيان القارئ كله، جسداً، عاطفةً وعقلاً. ولذلك بدت الثمار التي قطفتُها من قراءة رواية دوستويفسكي أكثر نضجاً وأعمق طعماً من ثمار الأفلام. كنت أجد صعوبة في مطابقة شخوص الأفلام مع شخوص الرواية. كنتُ أعددت الشخوص، بمعونة المؤلف، عبر الكلمات، الأسطر، الفقرات والصفحات. أعددتهم بدأب من يبتني بيتاً بيديه حجراً حجراً. في حين رأيتهم في الأفلام جاهزين. جاءوا دفعةً واحدة في هيئة ممثلين ماهرين. تماماً كما يأتيك بيتك بقوالب جاهزة، ليُنصب أمامك في ساعة من الزمان. هذا إلى جانب الدعم الجانبي من المؤثرات الصوتية، ولعب الكاميرا.
متعة السينما تختلف في الجوهر عن متعة المخيلة التي تولدها القراءة. فأنا أعرف تماما الأب كارامازوف. بكل سوقيته، شهوانيته، وتصابيه. كما أعرف أبناءه الثلاثة: ديمتري، إيفان وأليوشا. لقد تعاونت بهوىً عالٍ مع المؤلف في إنشاء كياناتهم المركبة، المعقّدة. لاحقت خلاياهم (كل خلية كلمة) التي خلقها المؤلف بدمه، وقد هيّأتُ مجسّاتي في أعلى حساسية وتوتّر لاستقبال وميضها الحاد. ولا غرابة أن أجدني في السينما مستعيناً قدر المُستطاع بالكلام والحوار الذي يتدفق من فم ديمتري مثلاً. فالخير والشر في كيانه يغليان في قِدر لا تُحسن إلا الكلمة نقل غليانه. ولكني معه على الشاشة أظلُّ نهباً لمؤثرات تعبيرات ممثله، والصوت وحيل عدسة الكاميرا. مع الكلمات أوفّره خليةً خليةً في مخيلتي. وما أيسر أن أقع عليه بين الناس الذين أعرف والذين لا أعرف.
كان ممثلو الأفلام التي رأيتها لا يشبهون تماماً شخوص دوستويفسكي. وهل يمكن أن يحدث الشبه، وشخوص الرواية كيانات يؤلف القارئ ملامحهم عبر مصفاة كيانه هو. ولك أن تتخيل مصاف بعدد قراء الرواية، ووجوهاً لديمتري بعددهم أيضاً. ولذلك عودت النفس، حين أُقبل على مشاهدة فيلم عن رواية أعرفها، أن أوحي لها بأني مٌقبل على فيلم لا شأن له بما قرأت. مُقبل على بيت يُشبه، من حيث هو قالب، بيتي الذي ابتنيته. ولهذا القالب عناصر جمال وتأثير قائمة بذاتها.
البارحة شاهدت الفيلم الجديد المُعد عن رواية "غاتسبي العظيم" للروائي الأمريكي فيتزجيرالد (1896-1940). رواية حضت بما حضت به "الأخوة كارامازوف" من تبنٍّ سينمائي (6 أفلام، صدر أولها، وهو فيلم صامت، عام 1926). المقارنة بين الروايتين غير واردة. فنجاح "غاتسبي العظيم" لم يكن أكثر من ضربة حظ، وفرتها بضعة عوامل طارئة: (بعد فشل الرواية تجارياً، طبعت القوات المسلحة في أتون الحرب الثانية 150 ألف نسخة وزعتها على جنودها. ثم أُقرت في المناهج الدراسية.) والفيلم الجديد من ابتكارات التقنيات الصوتية والإخراجية الفخمة التي كلفت الملايين، ولكنها تتركك "في قطيعة عاطفية، وتجعلك مجرد متلقٍ لا متعاطف." على حد تعبير أحد النقاد. على أن من قرأ الرواية لا بد يتذكر بتعاطف نثرها المؤثر، ومعالجتها لمنحدر الحلم الأمريكي، الذي اعتمد الثروة المادية هدفاً لا تعكر رؤيته وساخةُ السبل ورداءةُ الوسائل.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

العراق الثاني عربياً باستيراد الشاي الهندي

ريال مدريد يجدد عقد مودريتش بعد تخفيض راتبه

العثور على جرة أثرية يعود تاريخها لعصور قديمة في السليمانية

"وسط إهمال حكومي".. الأنبار تفتقر إلى المسارح الفنية

تحذيرات من ممارسة شائعة تضر بالاطفال

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

 علي حسين ما زلت أتذكر المرة الأولى التي سمعت فيها اسم فولتير.. ففي المتوسطة كان أستاذ لنا يهوى الفلسفة، يخصص جزءاً من درس اللغة العربية للحديث عن هوايته هذه ، وأتذكر أن أستاذي...
علي حسين

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (1-2)عطلة نهاية العام نقضيها عادة في بيت خوالي في بغداد. عام ١٩٥٨ كنا نسكن ملحقاً في معمل خياطة قمصان (أيرمن) في منتصف شارع النواب في الكاظمية. أسرّتنا فرشت في الحديقة في حر...
زهير الجزائري

دائماً محنة البطل

ياسين طه حافظ هذه سطور ملأى بأكثر مما تظهره.قلت اعيدها لنقرأها جميعاً مرة ثانية وربما ثالثة او اكثر. السطور لنيتشه وفي عمله الفخم "هكذا تكلم زارادشت" او هكذا تكلم زارا.لسنا معنيين الان بصفة نيتشه...
ياسين طه حافظ

آفاق علاقات إيران مع دول الجوار في عهد الرئيس الجديد مسعود پزشكیان

د. فالح الحمراني يدور نقاش حيوي في إيران، حول أولويات السياسة الخارجية للرئيس المنتخب مسعود بيزشكيان، الذي ألحق في الجولة الثانية من الانتخابات هزيمة "غير متوقعة"، بحسب بوابة "الدبلوماسية الإيرانية" على الإنترنت. والواقع أنه...
د. فالح الحمراني
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram